في مدينة صغيرة عشت معظم غربتي مع أسرتي بقرب شاب عربي كان صديقا لي منذ أيام الدراسة. فلم يكن هناك سوى مرمى حجر بيني وبينه. والعرب هنا بعدد أصابع اليد. أعتقدت أن جيرته ستأنس وحشتي وتقتل غربتي. تميزت شخصية الشاب بمزايا إستعراضية، أي يحب استعمال كلمات (أنا فعلت..أنا أحب..لاأحب) وتتميز تلك الشخصية بأنها إذا وجدت في مجلس تحاول أن تكون محور الجلسة أو الحفلة كي تبرز وهذا طبيعي في نمطية الشخصيات. وتميز إضافة إلى كل هذا بمزاج يدعى في علم النفس (مزدوج القطبية- bipolar ) وهي حالة مرضية ، أي يمر المريض بمرحلة سبات حركي وشدة في الإكتئاب حيث يمارس الشخص حاجاته الأولية الضرورية وينعزل عن الناس، ثم يلي هذه الفترة جنون حركي واندفاع إلى الحياة بشكل هائل . هذه حالة دورية عند المرضى قد تتروح مابين الأسبوع والسنة.
على أية حال ، ذهب إلى الوطن وأحضر معه زوجة، وانقطع عن الكلام معي ولم أراه رغم أن بيته كما قلت وراء بيتي. توقعت أنه يمر بفترة الركود المزاجي لأني أصبحت أتفهم حالته اذ فجأة يظهر علي يصافحني ويقبلني ويتودد إلي وينقطع أحيانا فترات غير معلومات حيث استعدت على ذلك.
بعد سنة ونصف من الإضراب عن الكلام معي اتصل بي في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر وكان صوته غاضبا وفيه رعب وسألني دون أية مقدمات : هل زوجتي عندكم؟ استغربت السؤال في أول الأمر، فهو لم يعرفنا حتى بزوجته. فأجبت باقتضاب وكيف تكون عندنا، وسألته ماهي المشكلة؟ فرد بلهفة :
لاأدري .. تركت البيت دون علم لي! ثم أغلق سماعة الهاتف . لم استوعب هذا الاتصال ، فهو لم يتكلم معي منذ سنة ونصف. خرجت من البيت كي ألقي نظرة على بيته من خلال حديقتي فوجدت أربع سيارات شرطة تطوق البيت وتلقي القبض عليه واضعة في يدية الاغلال.
بعد ساعة من تلك الحادثة اتصل بي وصوته ملهوفا ومملوء بالاستغاثة : أنا في السجن.. أرجوك تعال واخرجني . فسالت : ما المشكلة ؟ فقال بأنه اختلف مع زوجته فاتصلت بالشرطة فاخذوها إلى الملجأ ووضعوه في السجن. وبعد نصف ساعة كنت في مقر الشرطة . ولما سألت الشرطي المسؤول هناك وعرف بأني صديق السجين وضع أمامي عدد كبير من التهم منها لطم زوجته بيده على وجهها، وضربها بعصا البسبول بات على ظهرها ورأسها ووضع مسدس في رأسها ومحاولة قتلها. فسألت كم قيمة الكفالة فقال أن المحكمة تريد خمسون ألف دولار.
بعد يومين أخرجناه من السجن . كان في هذه المرة في غاية اللطف.، فسألني أن أخرج زوجته من الملجأ. أتصلت في الملجأ أسأل عنها فردت الموظفة بتشكك وحزم بأنه ليس لديهم أي شخص بهذا الاسم ( ذكرني هذا الرد بردود المخابرات العربية عندما تسأل عن شخص مفقود) إلا أن الفارق هنا أن رد الموظفة أتى لحماية المواطن لكن هناك بسبب إستباحة المواطن. فقلت لها هذا أسمي ورقم هاتفي إذا كانت زوجة صديقي هناك فالرجاء أن تدعيها تتصل. بعد ساعة اتصلت بنا وهي تبكي ومعها طفلها يبكي أيضا. وطلبت مني أن أساعدها في الرحيل والعودة إلى أهلها لوجه الله. تصمت ثم تكرر من خلال الهاتف : ارجوكم ساعدوني لوحه الله ، لااريد أن أبقى هنا لحظة واحدة.
وهنا احترت في أمري. صديقي يصرخ بأذني لمساعدته واحضارها إلى البيت وهي تصرخ تريد العودة إلى بلادها. مسألة محيرة. في اليوم الثاني اخرجناها من الملجأ وشرطت موظفة الملجأ أن تعيش معنا ونحن كما قالت نتحمل كامل المسؤولية في حمايتها. عندما وصلت كانت تبكي ولم تنقطع عن البكاء طيلة حديثها وهي تشرح :
الله وكيلكم أعيش مع وحش ، في الأسبوع يضربني مرتين بسبب وبدون سبب. وفي كل مرة أتشكى له يقول لي بأن الرجال قوامون على النساء، وأحيانا يضطجع على الكنبة ثلاث أيام دون كلمة أوحراك. مرة يضربني بالطاولة وأخرى بالمكنسة ومرة بالبيسبول بات (وتساءلت أننا نحن العرب حتى في أداة الرياضة مثل البيسول بات أسأنا استعمالها ) وتتابع هل ترى عيني كم هي سوداء، فقد ضربني (بوكس) عليها هل ترى وجهي كم هو متورم فقد ضربني بالزنار . و .. و.
صالحتهم في اليوم الثاني . لكن القصة لم تنتهي بعد. لأن المحكمة مازالت مقررة أن تضع صديقي في السجن ستة أشهر على ما جنت يداه لمكافحة العنف ضد النساء.
أخذني لأترجم ماتريد زوجته أن تقول في المحكمة. وكان في تلك الفترة في غاية التهذيب والليافة معي وعرفت السبب . فمصلحته تتطلب ذلك وخاصة لم ينتهي من المحكمة بعد. ذهبت إلى المحكمة معه ترجمت ماقالت زوجته. وبعد أسئلة كثيرة وأجوبة كثيرة سألني القاضي وهو يتبسم : هل العرف عندكم عادي في ضرب النسوان. فأجبت بأن المسألة هنا شخصية وفردية ، فقال بذكاء :
عملت قاضي في ولاية كليفورنيا لمدة 20 سنة ، كان في كل شهر يأتي بعربي مغلول إلى المحكمة بتهمة ضرب زوجته.
لم أرد على حديث القاضي لأني أعرف شخصيا أن الذين يضربون زوجاتهم في الوطن العربي كثر ولايعلم بهم إلا الله ورغم أن ذلك ناتج عن عدم وعي وجهل ويكثر في الطبقات الغير متعلمة، إلا أنه هناك ظاهرة عامة أكثر منها مسألة فردية.
ونرجع لصديقي الذي أمتدت محاكمته أكثر من ثلاث أشهر أنتهي الأمر به بدفع غرامة مالية لاأدري قيمتها. ومنذ ذلك اليوم لايسلم علي ولايكلمني وأندهشت هذه المرة هل ركود المزاج طال به حتى الآن ام هي مسألة أن مصلحته قد انتهت معي ولذلك استغنى عن صداقتي كليا. والله في خلقه شؤون.