الملك جل جلاله (1)
الحمد لله الذي له مافي السموات ، ومافي الأرض ، يحي ويميت ، وهو على كل شيء قدير .
والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، له ملكوت كل شيء وهو يجير ولايجار عليه .
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين ، يخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، وهو بكل شي عليم .
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد ، وعلى آله ، وأصحابه ، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد .
فإن الله سبحانه هو الملك ، الذي له غاية الجلالة والمهابة ، وهو صاحب الملك ومالك الملك ، الذي ينفذ أمره في ملكه ؛ وله الملك والملكية جميعاً . وهو صاحب الملك التام .قال الله تعالى : {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك }.وهو المالك : صاحب الملك الذي ينفذ أمره على المالكين حتى يمنعهم من التصرف في ملكهم . وهو المالك للمُلك .قال الله سبحانه : {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} وهو سبحانه المليك المقتدر يعنى : الرب والمالك ، فهو الَملك العظيم المُلك .
قال أمــيَّـة بن أبي الصلت :
لك الحمدُ والنَّعْماءُ والفضْلُ ربَّنا *** ولا شيْءَ أعلَى منكَ جِداً وأمْجدُ .
مليْكٌ على عرْشِ السَّمَاءِ مهيْمنٌ *** لعـزَّته تعْـنُو الوجـوهُ وتسْجُدُ .
وكل هذه الأسماء قريبة المعاني تدل بمجموعها على اتصافه سبحانه بالملك التام الشامل المحيط الذي لايند منه شيء ، ولا يخرج عنه حي .
وإن من يتأمل خطاب القرآن – كلام الله - يجد الرب سبحانه وتعالى ملكاً له الملك كله ، وله الحمد كله . أزمة الأمور كلها بيده ، ومصدرها منه ، ومردها إليه . مستوياً على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته عالماً بما في نفوس عبيده ، مطلعاً علي أسرارهم وعلانيتهم ، منفرداً بتدبير المملكة ، يسمع ، ويرى ، ويعطي ، ويمنع ، ويثيب ، ويعاقب ، ويكرم ، ويهين ، ويخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويقدر ويقضي ، ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه [1] .
يُذِّكرُ عباده فقرهم إليه ، وشدة حاجتهم إليه ، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ويَذكرُ غناه عنهم .. وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه ، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخبر فما فوقها إلا بفضله ورحمته ، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته ... وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم[2].
هو الملك الحق المبين القاهر ، الذي قد دانت له الخليقة ، وعنت له الوجوه ، وذلت لعظمته الجبابرة ، وخضع لعزته كل عزيز .
مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد .
يرسل إلى أقاصي مملكته بأوامره فيرضى على من يستحق الرضا ، ويثيبه ، ويكرمه ، ويدنيه ، ويغضب على من يستحق الغضب ، ويعاقبه ، ويهينه ، ويقصيه فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويعطى من يشاء ويقرب من يشاء ويقضى من يشاء له دار عذاب وهي النار وله دار سعادة عظيمة وهي الجنة [3].
والله سبحانه مالك الملك فـ(لامالك إلا الله) واستحقاق الله للملك لأمرين :
أولاً : لأنه خلق الخلق ، وصنعه ، وأبدعه ، وأنشأه وحده - سبحانه - ، وملوك الدنيا لا يقوم لهم ملك إلاَّ بأعوان .. ، وأما الله سبحانه فلا أحد يساعده على إنشاء الخلق ، ولا أحد يعاونه على استقرار الملك ، ولا أحد يمسك معه السماء أن تقع على الأرض إلاَّ بإذنه .
وثانياً : لأنه دائم الحياة ، بخلاف غيره من الملوك يموتون فينتقل ملكهم إلى وراثهم ، وكل أولئكم يؤول ملكهم إلى الله سبحانه ، يقول الحق سبحانه ω كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ω سورة الرحمن ،آية رقم :26 ، ويقول عز وجل ω وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ω سورة آل عمران ، آية رقم : 180 ، ويقول عز وجل يوم القيامة ω لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ω سورة غافر ، آية رقم :16 . فالملك في ابتداء الأمر لله ، والملك عند زوال الأرض ، وانتهاء الأمر ليس لأحد عداه .
فالله هو الملك الحق الذي أنشأ الملك ، وأقامه بغير معونة من الخلق ، وصرف أموره بالحكمة والعدل .
وملك الله وملكوته هو سلطانه وعظمته وعزه وسلطانه ، والملكية المطلقة ، والملك لله وحده لا يشركه أحد فإنه : « لا مالك إلاَّ الله » في الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، قال سبحانه : ω يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ω .سورة غافر،آية رقم :16 يقول صلى الله عليه وسلم : " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيمينه ، ثم يطوي الأرض يوم القيامة ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الدنيا ؟ " [رواه البخاري (6515) ومسلم (2787)].
الآثـار الإيمـانية :
أدب الوقوف بين يدي الملك : إن من أعظم مقاصد الصلاة التواضع للملك العظيم ، فاطر السموات والأرض ، واستشعار عظمته وكبريائه وسعة ملكه .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بالثناء على الله الملك ، فاطر السموات والأرض ،ويسأله العفو عن التقصير في حقه ، والقصور في مايكون من أداء واجبه ، ويسأله المباعدة عن الذنوب والخطايا مباعدة المشرق والمغرب وأن ينقي قلبه من المأثم وأن يغسله من الذنوب بالماء والثلج والبرد . يقول صلى الله عليه وسلم إذا افتتح صلاته قال :( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ) رواه البخاري رقم 744 مسلم رقم 598 .
وكان يقول أحيانا : ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين سورة الأنعام / الآيتان 162 و 163 اللهم أنت المــلك لا إله إلا أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت وأهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك إنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك ). رواه مسلم رقم 771 . وكان عليه الصلاة والسلام يركع بين يدي الملك العظيم مالك الملك – ولا يُركعُ إلا له - فيقول في ركوعه الذي هو موضع تعظيم الملك العظيم -: ( اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع قلبي وسمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين ) رواه مسلم رقم 771 .
وكان يجول بقلبه في ملكوت الله ، وعظمته ، وسعة ملكه ، وسلطانه فيقول :( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ) رواه النسائي رقم 1049 .
وإذا فرغ من صلاته عاد ليعتذر من ربه سبحانه ويدعوه ويثني عليه بأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد .
إنه لا ينفع ذا الغنى عند الله غناه ، ولا ينفع ذا الملك عند الله ملكه .لا ينفع عند الله ولا يخلص من عذابه ولا يدني من كرامته جُدودُ بني آدم وحظوظُهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك إنما ينفعهم عنده التقريب إليه بطاعته وإيثار مرضاته [4].
يتبع في الحلقة القادمة بإذن الله ....
* / كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
22/5/1428
________________________________________
[1] ينظر : الفوائد ، للإمام ابن القيم ص 28 . بتصرف .
[2] ينظر: الفوائد ص 28 .
[3] الصلاة وحكم تاركها ، للإمام ابن القيم ص 204 .
[4] ينظر : الصلاة وحكم تاركها ، للإمام ابن القيم 1/ 207 بتصرف كثير واختصار.