بسمة الزهرة- المراقبــين
من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:53
8 ـ الرجال قوامون على النساء ..
تُمسك – في عتمتها – رزمة من الأحلام ، وتحدق فيها واحداً تلو الآخر .. وفي النهاية تلقي بها جميعاً إلى حافة الظلام .. كم تمنت أن تسيّر الأمور بإرادتها هي بعد الله .. وبإصرارها على أن تحوز يوماً على مستقبل مشرق وأسرة مثالية ؛ ولكن .. هذا هو دأب الدنيا دائماً : أن لا تمنح الإنسان كل ما يريد ، تقلبت طويلاً في فراشها ، وتعجبت للأرق الذي أصابها الليلة ؛ فما الذي دهاها حتى يُجافيها النوم هكذا ؛ نظرت إلى الجسد الراقد بجوارها بهدوء .. وهمست :
- ليتك تدرك ما فعلته بي يا حمدان ؟! ..
انتزعت نفسها من طيات سريرها ، وقامت تطارد هواجس كانت تعصف برأسها .. ذكريات تنصب على رأسها المجهد فلا تستطيع منها فكاكاً ، لا شك أن كوباً من الحليب الساخن سيعيد النعاس إلى جفنيها ، فأعدته على عجل ثم جلست في القاعة المظلمة .. مستسلمة لأفكارها ..
كان حمدان شاباً وحيداً لامرأة أرملة ، وكان في بداية حياته الوظيفية عندما تقدم لخطبتها ، في ذلك المساء ربت والدها عليها بحنو وهمس قائلاً : " إنه شاب طيب وعلى خلق .. وأرى أن نزوج من نرتضي خلقه ودينه " ..
لم تَصْحُ على الحقيقة المرة إلا بعد أشهر معدودة من زواجها به ، وهي أن حمدان المدلل كان يخفي عجزه عن تحمل المسئولية وراء ستار زائف .. من حسن الخلق والدين .. خصوصاً وأن أحشائها كانت تموج بوليدها " خالد " الذي بات يعبث ولا يهدأ ، وذلك حين دخل عليها حمدان مغاضباً لا يلوي على شيء .. وكانت البداية ، فقد تم فصله من العمل لمشاجرة وقعت بينه وبين زميله حيث أراده جريحاً ..
وبعد إطلالة خالد على الدنيا ، جاءها حمدان بنبأ شؤم آخر .. قال بحيرة :
- ما الذي يحدث لي بالضبط ، فهذه الوظيفة الثالثة التي أُطرد منها خلال أشهر قليلة فقط .. !!
ومع ولادة ابنها سامي ، كانت أحوالهما تزداد سوءً ، وكان يجب أن تحسم المسألة فوراً ، فعزمت أمرها .. وتوكلت على الله ثم قررت العمل ، لا سيما وأن حمدان كان قد بدأ ببيع سيارته وبعضاً من الأثاث والأجهزة الكهربائية ، ومنذ ذلك الحين وهو يُلقي على كاهلها بكل الأعباء ، مسئوليات البيت .. والأولاد .. والعمل ، حتى مشاكله الخاصة والصغيرة كان يلجأ إليها لتحلها له ، وذلك حتى حدث وأن تعاقب عليها يوم استعرت فيه أعماقها بالويل .. والحزن .. وإنهاكات الحياة ، كانت بالكاد تقدر على الحراك بسبب حملها الجديد ، فدخلت إلى المنزل تريح نفسها من مشقة العمل .. وضجيج الطريق ، لتجد حمدان ينتظرها بصبر فارغ كي يزيدها ارهاقاً وتعباً ، قال لها بحدة الزوج المستبد :
- أين معطفي الرمادي يا سيدة .. إنني لا أجده في الدولاب ..
أجابته تخلع عنها عباءتها .. وتضع يدها على رأسها من حدة الصداع :
- ربما أنه في مكان آخر يا حمدان .. ابحث عنه جيداً ..
صاح بغضب :
- ماذا .. أبحث عنه ، وما دورك في هذا البيت .. حتى أبحث أنا .. !؟
في تلك اللحظة كانت تمنع نفسها من الانجراف وراء الغضب حتى لا تجرحه ، ومع ذلك انفلتت منها جملة مريرة .. قالت :
- لا أدري ما هو دوري .. قل لي أنت ..
أراد أن يستشعرها برجولته .. فقال متوعداً :
- اسمعي .. لا أحب أبداً أن تحدثيني بهذه الطريقة .. فأنا الرجل في هذا البيت ، ولا تنسي قول الله في كتابه العزيز : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " .....
صمت فجأة على إكمال الآية ، فقالت تحثه بقهر :
- لم لا تكمل .. لم لا تقول " وبما أنفقوا من أموالهم " ....
قال ينبض في أوردته الجرح :
- أتعايريني .. يا حسناء .. !
قالت بندم ..
- لا .. ولكني أردت أن أوضح لك نقطة كانت غائبة تماماً عن ذهنك ، وهي أن الأدوار قد انقلبت بيننا في هذا البيت ، فأنا أعمل وأنفق .. وكذلك أقوم بالطهي .. والتنظيف .. ومذاكرة الأطفال ورعايتهم ، بينما أنت لا تفعل شيء .. فقط تجلس في البيت تلبس وتأكل وتنام .. حتى الأولاد .. يبقون في حضانة أمي أو أمك معظم الوقت لأنك لا تحب ضجيجهم ولا تقدر على متابعتهم .. فما دورك بالتحديد وسط هذه المسئوليات التي أقوم بها وحدي ؟
قال يقر قولها بخجل :
- نعم .. أعلم أنني أحمّلك فوق طاقتك .. وأنني يجب أن أمد لك يد العون وأجد عملاً في القريب العاجل ..
قالت تشجعه بمودة :
- المهم أن تستمر فيه يا عزيزي .. أن تحسن التصرف ، ولا تقوم بالتشاجر والتخريب ..
قال يعدها خيراً :
- صدقيني .. سأفعل كل ما يرضيك .. وسأكون عند حسن ظنك إن شاء الله ..
حدث هذا منذ أشهر بعيدة ، وحتى الآن .. لم يطرأ ما يبشر بالخير على حياتها مع حمدان ، ومع بزوغ الفجر .. انتبهت حسناء إلى كوب الحليب الفارغ في يدها ، كانت قد تجرعته دون أن تستسيغ طعمه ، فقامت تصلب قامتها .. وتخطو إلى حجرتها بتثاقل .. محرضة نفسها على النوم ، لمواجهة .. يوم .. شاق .. آخر !! ..
9 ـ أنت طالق .. يا ليلى
أصابه شيء من الإحباط ولوعة النفس ، لم يكن يعلم أي الدروب يمكن أن يطرق وهو عائدا إلى منزله من المسجد ..
شريدا تطارده خيبة الأمل ولواعج الهم .. صائبا بكل ما يخالف الفضائل أو يخرج عن الملة ، كادت عيناه أن تستسيغ ذرف الدموع لولا أن كتم الشهقة التي تجثم على صدره الحزين ، فدخل إلى منزله يتمتم بالاستغفار حين وجدها كعادتها تجلس أمام التلفزيون تقلب قنواته غير مكترثة لوجوده .. أو لقسماته التي تلونت بالإيمان واستهجان سلوكياتها المعوجة ...
جلس على المقعد وراح يتأملها بحسرة ، ثم أسقط رأسه إلى الوراء يتتبع خطوط البداية بعينين تغوصان في ذكرى مريرة ، وتحديدا إلى سنوات قد خلت حيث راح زميله " يندر " يسهب بالحديث عن أخته " ليلى " ذات الدين والجمال والأخلاق الرفيعة ، ما زال يذكر حديثه ذاك الذي كان يدعوه من خلاله لأن يطلب يدها ، قال له " بندر " باعتزاز :
- إن من يتزوج بأختي سيكون رجلا محظوظا بلا شك ، فهي تجمع ما بين الصلاح والعلم والثقافة ..
وهمس إليه مبتسماً : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
وبعد أسابيع قليلة كانت تدخل " ليلى " إلى منزل " عادل " كزوجة فاضلة كان يبحث زوجها من وجودها عن الحظ والسعادة .. ولم يخب ظنه أبداً .. حيث كانت ليلى نعم الزوجة الطيبة الوفية ، التي كانت تستنزف كل جهودها وعطاءها لتصنع منه رجلاً سعيداً ، بل إنها آلت على نفسها أن تصلح في عادل ما أفسده الشيطان عليه فراحت تمتعه بحديثها العذب ودروسها الإيمانية المتواصلة في التقوى والفضيلة إلى أن وضعته على الطريق المستقيم ، قالت له يوماً بحياء بالغ :
- ستصبح أباً عمّا قريب يا عزيزي .. وكم أنا سعيدة بأنه سيكون لابننا أب صالح مثلك .. !
همس لها حينئذ يبثها طمأنينة نفسه : وأنتِ إن شاء الله ستكونين الأم المثالية لولدنا أيضاً ؟؟
ولكن المثالية التي كان يرجو دوامها انقلبت إلى شر .. وليلى .. تلك المرأة الفاضلة تحولت إلى وحش نهم أخذ يلتهم طمأنينة عادل وفرحه ، حيث أنجبت زوجته طفلهما الأول .. وجاء " سعيد " إلى الدنيا يشيع البهجة في قلب والديه اللذان لم يكن لهما شاغل سواه ..
حتى تعاقبت الأيام بأحداث الأيام بأحداث غريبة ، فجأة تغيرت ليلى بعد أن صادقت إحدى السيدات المتحررات ، التي عرفّتها بدورها على نسوة لا يقللن عنها شأناً في الأخلاق الفاسدة وفي الاجتماعات التي لا تخلو من الغيبة والسخرية بالأخريات ، وشيئاً فشيئاً أخذت ليلى تهمل طفلها وبيتها ، أصبحت تميل إلى الكسل والخروج بعد أن خلعت عنها التزامها الذي كان يميزها ، وتمادت في أخلاقها الفظة فباتت لا تُكن لزوجها أي مودة أو احترام ، وعندما كان يواجهها عادل بأخطائها كانت تصرخ فيه طالبة منه الطلاق ، في كل مرة تفعل ذلك وتهدده بالطلاق ...
وفي كل شجار بينهما تطلب إليه أن يحررها منه ، حيث هو كان يتحصن بالصبر ويمنحها فرصة وراء الأخرى علَّها تفيق من غفلتها وتعود إلى صوابها ، ولكنها أبداً لم ترجع عن طريقها الشائك . بل إنها استرسلت في عنادها فأدخلت الدش إلى بيتها ورغماً عن زوجها .. كما أنها أصبحت تخرج وتدخل إلى منزلها دون أن تستأذنه أو تعيره أي اهتمام ، فأحالت حياة رجلها إلى كومة من العذابات المتتالية ..
استيقظ من شروده على صوتها وهي تسأله بغلظة :
- ألن تشتري لي ذلك الثوب الذي رأيته قبل يومين ، فموعد حفل صديقتي قد اقترب .
اعتدل في جلسته ثم رمقها بمرارة وهو يقول : لقد أخبرتك من قبل .. بأنه باهظ الثمن .. وإمكانياتي لا تسمح بشرائه ..
صرخت في وجهه بوقاحة : بل قل أنك لا تريد شرائه لأنك رجل بخيل ورجعي .. تماماً كما وصفتك صديقتي هناء ..
نهض من مقعده يستبد به السخط ، لم يعد هناك من سانحة أخرى يمكن أن يمنحها إياها بعد أن أصبحت تتطاول عليه على هذا النحو .. وقد آن الأوان لينهي هذه المهزلة التي تدمر عمره .. قال لها بأنفاس محترقة بينما هو يكز على أسنانه :
- بل أنت امرأة ناقصة دين وأدب .. وأعرف تماماً كيف أجعلك تثوبين إلى رشدك ..
أجابته ببرود وسخرية : ماذا ستفعل يعني .. ؟!
تحرك بسرعة أمام عينيها يحمل التلفزيون وجهاز الدش ويهوي بهما إلى الأرض بينما صرخاتها تحاول أن تمنعه .. وبعد أن أنهى مهمته .. التفت إليها وسط الحطام قائلاً :
- لقد صبرت عليك طويلاً .. ولكن دون فائدة .. وربما أنه حان الوقت كي أحقق رغبتك ..
سألته يخوف وقلق : ماذا تقول .. وأي رغبة تعني .. ؟
قال لها يدلق بصوته كل أحزانه السوداء : أنت طالق يا ليلى .. طالق .. طالق ..
ثم أضاف بقسوة : أخرجي من هنا .. ولا تفكري بأن تأخذي " سعيد " معك .. لأن مثلك لا تصلح أن تكون أماً له ..
ودخل إلى مكتبه يمنحها فرصة أن تحزم حقيبتها وتخرج من بيته الذي خربته بيديها وأحالته إلى جدران حزينة .
أما هي .. فكانت الصدمة تذهلها .. وكانت حدقاتها الدامعة تومض بالندم وبوادر التوبة وهي تفتش عن الحل لهذه الكارثة التي أثارتها بنفسها .. !
10 ـ لا أحب مثاليتك الناعمة .. هذه
لم يرقها أبداً الواقع الذي يجمعها برجل خيالي ، فارس تذوي قواه في حضرتها .. فارس بلا ملامح .. سيفه ناعم .. وخصاله مثل نسائم فجر تهب على ضعفها بالحنان المفرط فتثير حقنها ، ذاك هو زوجها ، مخلوق مرهف .. وشفاف لا يتواءم مع حساسيتها الأنثوية ، وإن حاول يوماً أن يثور أو يغضب ، فيتلون محياه بحمرة الارتباك والنقمة على نفسه ، لأنه لا يقدر على إسعادها كفاية .. أو لأنه يعجز أن يكون مثالياً معها إلى درجة الكمال .. هكذا كان يعتقد لذا كان يستفزها بسلوكياته المنبثقة دائماً من محاولة إرضاؤها ، يأتيها في المساء هائماً بحبه يحمل باقة من الورود .. وهدية مغلفة بابتسامة العاشقين ، ثم يطلب إليها أن تسترخي بدلال ريثما يعد لها الطعام أو فنجال من القهوة على ضوء الشموع الخافتة ، لم يكن يحب أبداً أن يراها تجهد نفسها أو حتى يلمس لديها شيء من الضجر .. ولم يكن هذا أيضاً ما كانت تحلم هي به ، بل كانت أمنيتها تتوالد في خيالها الخصب بأن تجمعها الأيام برجل مغاير تشعر معه بكل ضعفها أمام قوته الجارفة .. رجل يعلمها فنون الحياة الفطرية .. فتحتمي بظله باحثة عن الدفء والأمان ، أما هذا الذي تعايش معه حياة مريحة للغاية .. حتماً هو بعيد كل البعد عن كل ما يجول في رأسها المتعب من خواطر مرهقة .. حتى أنها قالت له يوماً تلقي بوروده على الأرض :
- لقد مللت .. مللت هذه الحياة ..
انتفض قلبه لتذمرها .. حيث أسرع صوبها متلهفاً لنجاتها :
- ماذا تريدين حبيبتي .. هل تحبين أن نسافر كي نجدد من نشاطنا .. أم تفضلين تغيير هذا المنزل .. كي أمنحك حياة جديدة ؟
صرخت في وجهه بألم : أنت لا تفهمني .. ولن تفعل أبداً .. فأنت من يحتاج إلى التغيير ..
قال بخيبة أمل : وبماذا قصرت معك يا منى .. حتى تقولين ذلك يا عزيزتي ؟ ..
همست إليه تسمعه شهقات قلبها الرافض خنوعه إليها :
- هذه هي المصيبة .. أنك لا تقصر بشيء .. وأنا لا أريد ذلك .. أفهمت .. أنا لا أحب مثاليتك الناعمة هذه .
وظل لا يفهمها أبداً .. وتمادى أكثر في تدليله لها .. حتى عاد يوماً إلى المنزل ليجدها قد غادرته .. تاركة له رسالة كتبت فيها :
" أنا أريدك رجل قوي يعتز برجولته ، رجل لم يُخلق للخضوع لامرأة مثلي قط .. وإنما ليكون لها الزوج والشريك والحامي .. فإن استطعت أن تصبح كذلك .. فأنا لك مدى الحياة .. وإن لم تستطع فهو الفراق بيننا .. "
بعد ثلاثة أشهر أعادها والدها إلى بيتها مرغمة .. بعد أن اتهمها بقسوة أنها إمرأة مجنونة لا تدرك قيمة زوجها أبداً ..
فجلست تندب حظها في حجرتها لأنه ليس هناك ثمة رجل على الأرض يفهم مبتغاها ..
وفي المساء عاد " ماجد " إلى المنزل بوجه مكفهر .. عالماً بوجودها من خلال اتصال هاتفي من أبيها ، وكان أول ما فعله عند اقتحامه للقاعة أن نادى عليها بغلظة : منى .. يا منى ..
خرجت إليه تماطله وهي تنظر إليه بقرف : ماذا تريد ؟
اقترب منها وتوعدها بغلظة : مرة أخرى حين أناديك .. عليك أن تتركي كل شيء .. وتأتين من فورك !
أجابته ببرود وسخرية : وها قد أتيت .. فماذا تريد أيها الحالم .. الضعيف الشخصية .. ؟
فجأة رفع يده ولطمها على صدغها بعنف قائلاً : كيف تجرؤين على السخرية مني ؟
بقيت دقائق طويلة مسمرة في مكانها .. لا تستوعب ما حدث ، أهذا هو " ما جد " السلبي الشاعري .. هل يمكن أن يتبدل وبهذه السرعة .. لم تصحو إلا على صوته وهو يأمرها بتسلط :
- هيا .. اذهبي وأعدي لي الطعام .. فأنا أتضور من الجوع .. هيا .. ماذا تنتظرين .. ؟!
وبدون كلمة انصاعت لأمره وهي تقول بضعف : حالاً .. حالاً يا عزيزي ..
نعم .. لقد تغير ماجد كلياً .. يا لسعادتها .. لقد أصبح قريباً من الرجل الذي تتمناه .. بل إنه قلب حياتهما وأدوارهما رأساً على عقب .. فباتت هي التي تنتظره كل ليلة بلهفة وصبر فارغ بينما روائح الطعام الشهية تفوح على المائدة وسط الشموع والأجواء الساحرة التي صنعتها لأجله .. لأجله فقط ..
وفي لحظة صفاء سألها وهي تلقمه من الحلوى التي أعدتها له :
- ها .. هل أنت سعيدة الآن .. ؟
تنهدت بارتياح : وكيف لا أكون سعيدة يا حبيبي .. وأنت تجعلني أبدو وكأني ولدت من جديد ..
همس إليها مشاغباً : إذن فأنت تحبين الرجل القاسي والفظ ؟
عارضته برقة : بل أحب الرجل القوي .. الذي أشعر بجانبه بالأمان والحماية .. وبأنني كائن ضعيف ومدلل ..
ضحك يمزق ستائر الليل بقهقهة صاخبة كادت أن ترجفها :
- حقاً .. إن عالمكن غريب أيتها النساء .. عالمكن غريب جداً ..
11 ـ أرقام مجنونة
كانت تنزوي في المقعد الجاثم عند المدخل الرئيسي للصالة ، كمن لا حيلة له وسط ضباب الأفق القاتم .. تتجهم للغموض المتلاحق على جبين الأحداث اليومية – في حياتها – بمستجدات غريبة ..
لم تكن تفهم تلك المعاني المبهمة في السلوكيات الأخيرة لزوجها ، ولم تشأ أن تغوص في أعماقه ، أو تنبش أفكاره .. حتى لا يصفعها بمفاجأة لعينة .. فتركت الأيام تحل لها لغز اعتكافه عنها .. في حين كانت أعصابها تزداد توتراً .. وقلقاً ، حيناً بعد آخر !
تنهدت بمرارة ، وقالت محدَّقة في الباب المغلق في آخر الردهة :
- آه .. لو أعرف ما يجري هناك !!
خطر لها – وسط حيرتها – أن تقوم من فورها وتقتحم حجرته لتقف على ما يدور بين جدرانها من أسرار ، لكنها سرعان ما تراجعت حين داهمها طيفه الواجم ، مذكراً إياها .. بأوامره الصارمة :
" لدي عمل هام .. ولا أريد أن يزعجني أحد ! "
كل يوم لديه عمل هام .. وكل يوم ينأى بجانبه عنها وعن أطفاله .. أي عمل هذا الذي يدفنه في أحشاء عزلته لساعات طويلة ! .. وأي عمل يجعله يزهد بكل شيء .. حتى بطعامه وشرابه .. !
أدركت أن ثمة سر خطير في الأمر ، فوسوست لها الهواجس بظنون جعلتها تنتفض :
- لا .. هل يعقل أنه يخطط لزواج جديد ؟! ..
ارتعشت وشحب لونها حتى شعرت بالدوار .. لم تقدر على الصبر أكثر من هذا .. فقفزت من مقعدها تفتش عن محاولة ناجحة لاقتحام المكان وبأي وسيلة .. وجاءتها أفكارها .. بخطة جهنمية !!
بدأتها بكوب من الشاي الساخن مرفقاً بطبق أنيق من البسكويت المزين بالقشدة ، ثم مرت بحجرتها بسرعة لتغير من هيئتها ، وتُغدق على أنوثتها بأناقة صارخة ..
راحت تحدثه – في همس – وهي تضع أحمر الشفاه : الويل لك يا عبد الرحمن إن كنت تنوي الزواج ..
ثم وهي تكز على أسنانها ، وتسرح شعرها بطريقة تعجبه :
- الويل .. والويل لك !
زجرت أفكارها أمام باب حجرته .. ثم رسمت على محباها ابتسامة رائعة ، وانسابت بعجلة إلى الداخل حتى لا تسمح لصوته بأن يأمرها بالعودة .. كانت تسير بسرعة كبيرة حين توقفت في منتصف المسافة ورسمت على جبينها علامة تعجب هائلة ..
هل تصدق ما ترى ! أم أنها ظلمته !!
بدا لها مخلوقاً آخر وهو منكمش على نفسه فوق مكتبه ، ومستغرقاً في عمل لا تدري – هي – ماهيته .. كان أشعث الرأس ، طويل الذقن .. يرتدي نظارة على عينيه ويضع الأخرى على قمة رأسه ، في حين كان يكتب بقلم ويعلق غيره فوق أذنه الشمال .. وكتب وملفات – وأجهزة حساب تبعثرت حوله بفوضى عجيبة !!
همست لنفسها بدهشة وهي تكمل سيرها نحوه :
" ترى .. ماذا يفعل هذا الرجل ؟ "
لكنها توقفت من جديد ، حين سمعته يتمتم بعبارات غريبة :
- إذن الشهر الثالث : دعوة إبراهيم + مصروفات أحمد في المستشفى + ثوب جديد لطلال + إصلاح السيارة .. يساوي ..
" هل يمكن أن يسجن نفسه من أجل هذه الحسابات فقط ! "
شعرت برغبة عارمة في الضحك من هواجسها المجنونة .. لكنها تماسكت ، ونادته تنبهه لوجودها :
- عبد الرحمن !
كان مستغرقاً في أرقامه حتى أذنيه ، فلم يسمعها .. كررت النداء هذه المرة وبصوت أقوى :
- عبد الرحمن ..
رفع إليها رأساً يكتنفه الدوار .. وتجهم لانتهاكها حرمة أوامره ، فاستدركت الوضع وقالت بدلال ومكر :
- لقد قلقت عليك .. ورأيت وقد انقضى عليك زمناً في مكتبك ، أن خير وسيلة لإنعاشك هو كوب من الشاي الساخن ..
وأردفت وهي تتوقف بمحاذاته :
- وقلت لنفسي لا بد وأنك تشعر بالجوع الآن ، لذا أحضرت لك قليلاً من الحلوى التي تفضلها !
ساورها الفضول من جديد وهي تنظر إلى الأوراق المتناثرة .. من فوق كتفه فسألته :
- ماذا تفعل .. ؟
أجابها بضجر .. مستنداً بجسده المنهك إلى ظهر المقعد :
- إنني أحاول أن أحل اللغز .. !
- أي لغز هذا .. ؟
سألته بلا مبالاة .. بينما أخذ هو يفسر لها المسألة بغيظ :
- لغز المعاش الذي بات يتبدد مني بعد انقضاء أسبوعين فقط من استلامه ..
وتابع يضرب المكتب بقبضته :
- لغز الديون التي بدأت تتراكم فوق رأسي .. والشكاوي التي بدأت تلاحقني .. !
ضربت على صدرها تسأله بذهول :
- ديون .. وشكاوي ، لماذا ؟ .. !
- أتريدين أن تعرفي لماذا .. اسمعي !
التقط ورقة من كومة الأوراق أمامه .. وراح يقرأ لها محتوياتها بصوت غاضب :
- أجور المنزل والخادمة والمدارس الخاصة ، فواتير الكهرباء والتليفون والمغسلة ، ملابس جديدة وإكسسوارات شهرياً ، حفلات وولائم لصديقاتك .. هدايا باهظة لجاراتك وقريباتك .. اشتراك نادي .. اشتراك شهري في المطاعم ، لأن حضرتك تأنفين من الطهي ..
حدقت به :
- ما شاء الله .. إذن أنا الجانية الوحيدة وسط هذه المشاكل ..
وأكملت تكيل عليه بالتهم :
- ولماذا لم تذكر مصروفاتك الشخصية ، ودعواتك الأسبوعية لأصدقائك .. لماذا لم تذكر الأجهزة المختلفة والساعات والعطور التي تشتريها بين الحين والآخر .. لماذا تلقي باللوم علي وحدي .. ؟!
قال بضيق يائساً :
- لأنك شريكتي في الحياة ، وسيدة هذا المنزل .. وعليك أن تشاركيني أعباء الإنفاق وتنظيمها .. ؟
قالت بعناد :
- مهما يكن .. لست وحدي المسؤولة ..
أجابها معترفاً :
- أنا لا أنكر بأن كلانا مخطئ في مسألة الإسراف .. ولكن ..
رمى القلم من يده بعصبية ، قائلاً بعد زفرة طويلة :
- ولكن هذه الفوضى في الإنفاق يجب أن تتوقف ، وإلاّ وجدت نفسي في النهاية .. في موقف لا أحسد عليه !!
قالت .. تصطاد في الماء العكر :
- اقترحت عليك مراراً بأن أعود إلى عملي .. وأنت الذي كنت ترفض ..
صاح محذراً :
- لن تعملي .. ولن أعود لمناقشة هذا الموضوع ثانية ، حتى لو غرقت في الديون إلى هنا !
أشار إلى جبهته .. وأردف بكبرياء :
- لست أنا من يتطلع إلى أموال زوجته .. أو مساعدتها !
وقال ساخراً :
- ثم أن عملك لن يحل المشكلة أبداً يا سيدتي ، بل سيزيدها تعقيداً .. هذا لو وضعنا في الاعتبار مصروفاتك الشخصية اليومية من ملابس وحلي وأجر سائق وغيرها .. بالإضافة إلى أولادنا الثلاثة الذين سيقعون ضحية للخادمة ، وللمشاكل التي ستنشأ وتتفاقم بسبب تغيبك عن المنزل ..
قالت بامتعاض .. تغير الموضوع :
- إذن .. ما هو الحل برأيك ؟
دار من وراء مكتبه دورة كاملة ، وراح يتسكع في أحضان الحجرة ، وبعد هنيهة قال :
- الحل الوحيد ، هو أن نضع ميزانية منظمة للإنفاق الشهري ..
- وماذا يعني هذا ؟
قال برجاء :
- يعني أن نقتصد قليلاً في مصروفاتنا .. حتى نتجاوز الأزمة ..
أجابته بغرور :
- إن مستواي الاجتماعي ، لا يسمح لي أن أظهر أمام صديقاتي بمظهر المرأة المقتصدة .. أو المغلوبة على أمرها .. !
سألها ، يصب عليها بعبارات ساخنة :
- أليس ذلك خيراً من أن تظهري أمامهن بمظهر السيدة البائسة الذي سجن زوجها بسبب ديونه .. ؟
ارتجفت لتعليقه فجلست تفكر بالأمر ملياً .. وبعد دقائق جاءها صوته متسائلاً :
- ها .. ماذا قلت ؟
نهضت واقتربت منه باستسلام : حسناً .. كما تريد ..
وهمست إليه صادقة :
- وكما دللتني في الرخاء .. فلن أتخلى عنك في الشدة
موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء