موقع قف وناظر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
موقع قف وناظر

اسلامي ثقافي حواء وادم موقع قف وناظر ملتقى العالمي مجلة قف وناظر منتدى عالمي فنانين ومشاهير نجوم علماء وموسوعه


2 مشترك

    حكايات خلف الأبواب

    بسمة الزهرة
    بسمة الزهرة
    المراقبــين
    المراقبــين


    حكايات خلف الأبواب  Empty حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:51

    حكايات خلف الأبواب  Adress900



    حكايات خلف الأبواب

    سحر ناجي



    • إهداء


    أختي وصديقتي .. وتوأم روحي :

    ( أم عبد الله ) .. الغالية ..

    إلى الإنسانة التي يفوح من قلبها روائح الخير .. والعطاء اللامتناهي .

    إلى الوجه الذي علمني .. أن الحياة بكل أهوالها .. وصعابها يمكن أن تحلو عند بسمة حانية ، ونظرة ملؤها الوفاء .. إلى اليد التي أغدقت عليّ بكل الحنان والأخوة .. فاتكأت على سخائها لأقوى .. وأمضي في دروب الأيام ..

    إليك أيتها الرائعة .. أروي هذه الحكايات .
    سحر الناجي




    • المقدمة


    • فلسفة الزواج


    قال الله تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء "

    الزواج ومراكبه الذهبية التي تنساب بنعومة وشاعرية في أحضان الحلم ، ثم ترسو في نهاية المطاف فوق شاطئ مجهول .. هذا الطيف الحالم ، أو لنقل هذه الأمنية المنعشة التي غالباً ما تراود الفتيات في سن المراهقة ، وأحياناً تتبلور وتتضخم في مرحلة النضوج حتى تملك عليهن كل الأحاسيس والخيالات الممكنة ..

    فتذهب البعض منهن – بعيداً عن الواقع – إلى تخيل الزواج على أنه فردوس ساحر تحيطه الأزاهير الفواحة وتزينه الورود العطرة من كل جانب ، وقد تتصوره أيضاً مغرقاً بالدفء والحنان اللذان يشيعهما ذلك الفارس الأسطوري المعتلي عرش السعادة ،

    وقد تعتبره أخريات – وهنَّ من وَقعن فرائس لتأثير الروايات الخيالية والأفلام الملغمة بمشاهد الحب والهوى – مجرد رحلة جميلة في قلب عالم غامض خلاب مُفعم بالسِحر والمغامرة والتشويق ، في حين نجد فئة ثالثة تنظر إليه على أنه علاقة نفعية ومصالح مشتركة بين الطرفين ، يمكن أن يُغنم من ورائها بالثراء والمركز الاجتماعي المرموق بالإضافة إلى لرفاهية والحياة الباذخة ، لكن هل هذه حقيقة الزواج فعلاً ؟ وهل هذه أسسه وشروطه المطلوبة ، فماذا إذن عن الاختيار الموقف بين الطرفين ، بل ماذا عن المرحلة التي تعقب الزواج بما تنضح من تجارب حقيقية غالباً ما تكون صعبة ، يتداعى عندها كل احتمال ممكن للطمات الواقع المرير .. ؟!

    هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يتوقف لديه الكثير من العقلاء ليُحَللَ بحكمة وروية قبل الإقدام على هذه الخطوة المصيرية سواء من قبل لفتاة أو الشاب ، حيث يعتبر الزواج – بالرغم من كل الأحلام – مؤسسة عظيمة يجب أن تقوم على مبدأ التفاهم والتكافؤ ، هذا إلى جانب التنازلات الإيجابية بين الشريكين ، وليس على مجموعة من الرموز والخيالات الوهمية المثيرة التي يقوم بتصنيعها أرباب الخيال الجامح ممن يعملون في الأدب والتمثيل ..



    ولأن الزواج رابطة من الضروري أن تنهض على ما ذكرنا ،

    يروي لنا التاريخ في هذا الصدد موقف طريف لأحد الفلاسفة ، حيث قرر الرجل أن يخوض تجربة الزواج كغيره من الرجال ، فعُرض عليه ثلاث فتيات جميلات ليقوم باختيار إحداهن حتى تكون شريكة لحياته ، فأراد الرجل اختبارهن بذكائه ، فقدم لكل واحدة منهن مجموعة من اللآلئ الثمينة التي دُهشت لها الفتاة الأولى وقالت بإعجاب : " إنها حقاً لآلئ جميلة " .

    وقالت الثانية بغرور : " لو كانت مع هذه اللآلئ ماسة ذات قيمة " .

    أما الثالثة فقالت : " لا أريد هذه اللآلئ فأنا يكفيني الحب .. ".



    بعد هذه التعليقات الموجزة ، برأيكم من سيختار الفيلسوف بين الفتيات لتكون زوجته ؟



    يُقال أنه اختار الأولى لأنها – على حد قوله – " فتاة قنوعة رضيت بما قُدم لها وسعدت به "

    أما الثانية فهي كما قال " طمَّاعة شرهة لا تقنع بما يقدم لها وتسعى للمزيد "

    والثالثة " خيالية غير واقعية لا تصلح للحياة الزوجية وتحمُّل مسئولياتها .. ".



    أجل .. هذه هي الفلسفة الواقعية والأبعاد الحقيقية لما وراء رابطة الزواج ، وليس اللهاث أو تحقيق كل ما تبثه قنوات التلفزيون وتصوره الروايات الزائفة من أوهام وسراب عن الحب وهمسات الحب التي سرعان ما تتحول إلى عِشَرةٍ وأولاد ورحلة عمر تجتاحها عواطف الحياة وهمومها العديدة ، وهذا ما يعرضه كتابنا في الصفحات التالية من مواقف وأحداث تقع بين الأزواج والزوجات في كثير من القصص الواقعية ..

    والله ولي التوفيق ،،،


    موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء

    بسمة الزهرة
    بسمة الزهرة
    المراقبــين
    المراقبــين


    حكايات خلف الأبواب  Empty رد: حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:52

    سحر الناجي



    1 ـ غلطة .. شنيعة



    - لا يمكن .. لا يمكن أبداً ...

    انهارت كل قواه .. وشعر بمرارة تعتلي حلقه ، فوضع يده فوق رأسه وراح يولول كالمفجوع :

    - أنا لا أصدق ما يحدث .. لا أصدق ..

    كان يموج في المنزل موجاً متلاطماً ، يزمجر حيناً .. ويبحلق في الدنيا حيناً آخر ، ثم يقول كالمخنوق :

    - هذا آخر ما كنت أتوقعه في هذه الحياة ..

    لم يهدأ أو يستكين منذ أن سمع بالخبر .. وأثناء عودته إلى المنزل كان يقود عربته ساهماً بينما أصداء النبأ تتشنج لها خلاياه ، لكنه في النهاية استيقظ من لوعته على تقزز وقرف أصاباه ، فصرخ :

    - يا إلهي .. لا ..

    نهض من كرسيه يجوب المكان في ألف خطوة .. كان يعدو في كل البقاع وهو متسمر في مكانه ، حتى توهم بأن الكواكب يدور به بسرعة رهيبة ، يدور ويدور حتى يثخنه بالإنهاك ، فتسائل وهو يترنح :

    ماذا أقول للأولاد .. للأهل .. لجيران ، ماذا أقول لأمي ؟! ..

    كاد أن يسقط لولا مقعد كان في الجوار احتضنه ، جلس فوقه كالمغشي ، وهمس يوصي نفسه بالتزام الهدوء قليلاً ليتبين الوقائع ، وبلا وعيي منه تحسس جسده .. ورأسه ثم تساءل :

    - هل هو حلم هذا .. أم خيال ؟!

    داهمته ذكرى الفجيعة مرة أخرى ، فقفز كالملدوغ ، كان ألف خاطرة وخاطرة تحط على ذهنه المشتت .. أين .. ومتى .. وكيف .. ولماذا ، لذلك تلعثم .. وارتبك .. جلس مرهقاً وهو يقول بصوت متقطع :

    - كارثة .. مصيبة ..

    رجع بذاكرته إلى أيام طفولته ليفتش عن مبرر معقول في أحراش الماضي ، صور كثيرة طفت على سطح ذاكرته ، اقتطف منها بداية مسرفة بالقدم ، لا سيما الحي القديم في الشارع الغربي ، وعصبة من الأولاد كانوا يلعبون " الحبشة " ، في ذلك اليوم خرجت " هناء " ابنة الخمس أعوام من البيت الملاصق لبيت ذويه .. قالت له بخشونة وهو منشغل باللعب معهم :

    - أحمد .. أريد أن ألعب معكم ..

    لم يمهلوه الصبية ليقرر بعد أن رأوا حيرته ، بل تصدوا لها ونهروها بقسوة ، قال لها كبيرهم :

    - اذهبي يا صغيرة والعبي مع البنات ..

    في ذلك الوقت كانت هناء تبتعد وهي ترجمهم بالحجارة ، وتتوعدهم بعلقة ساخنة من أخيها محمود .. وكان يلحظها أحياناً وهي تتحرش بأطفال الحي الصغار ثم تشبعهم ضرباً ، حتى استطاعت أن تولي من نفسها زعيمة عليهم ، ورغم ذلك كبرت هناء .. وكبر معها حلمه بأن تكون له ، كان يحب فيها الجرأة والتمرد .. قالت له أمه بامتعاض :

    - لست أدري ماذا يعجبك في هذه الفتاة المسترجلة حتى تتزوجها .. !

    داهمته هناء بملامحها البريئة وقسماتها الناعمة ، داهمه همسها ورقتها ، كانت تداعبه ذات مساء يوم ، فقالت له وهي ترفع يدها المكورة في الهواء :

    - ليتني أتحول إلى رجل لأقتص للنساء منكم معشر الرجال ..

    ثم تذكرها وهي تميل على الجانبين في أشهر الحمل الأخيرة وتئن من آلام الوضع ، فمس كالمشدوه :

    - لا يمكن أن يكون كل هذا وهم أو سراب ..

    لكن الطبيب قال له بارتباك وحذر :

    - اسمعني جيداً هذه معجزة من معجزات الخالق سبحانه .. وعليك أن تقبل بالأمر الواقع ..

    ثم نأى به جانباً وأردف :

    - حالة زوجتك نادرة جداً ، فهي نصف ونصف !

    قهقه بجنون .. وصرخ :

    - أنا زوجتي .. رجل .. !!

    قال له الطبيب : بإمكانها أن تحيا كرجل إن أرادت .. فالمسألة تحتاج إلى تدخل جراحي .. والقرار يعود إليها ..

    - هل كنت أعيش مع رجل طوال هذه السنين !!

    سأل بهستيريا وراح يترنم على ذكرى المصيبة :

    - يا عيني يا هناء .. ستصبحين سيد هذا البيت .. !

    وتخيلها بشارب ولحية ، فجن جنونه .. ثم تصورها وهي تقف أمامه نداً لند وتقول له بتحدي :

    - لا فرق بيننا الآن .. دعنا نتفاهم رجل لرجل ..

    نظر إلى ساعة معصمه .. وقال بقلق :

    - ستعود هناء بعد قليل من زيارة أمها – فكيف أواجهها بالأمر .. وماذا سأقول لها .. وأي الحلول ستختار ؟

    كمٌّ من الأسئلة الأخرى يرهقه ، فوجم .. وشرد .. وامتعض ، بالأمس .. بالأمس فقط كان يعاملها على أنها أنثى ، حيث كانت تشكو من الدوار والغثيان فقرر أن يأخذها إلى الطبيب للمعالجة .. وليته لم يفعل .

    فجأة علا رنين الهاتف يلطم سمعه ، فقام يجيبه بتثاقل :

    - نعم .. من ؟ .. آه .. أهلاً دكتور ..

    وأخذ يستمع إليه بينما جبينه يأخذ شكل العبوس ثم الذهول .. ثم الغضب ، صاح بانفعال :

    - ماذا .. غلطة ! ولكن هذه غلطة لا تغتفر ، ثم كيف يمكن للممرضة أن تخطئ في الملفات بهذه البساطة .. ؟!

    - لا .. يجب أن تعاقب .. أجل لا بد من عقابها .

    وصمت لحظات أخرى يصغي .. ثم هتف بسعادة ..

    - هكذا إذن .. الله يبارك فيك .. شكراً لك أيها الطبيب العظيم ..

    وضع السماعة ، وأخذ يرقص بلا إدراك وينشد :

    - غلطة .. غلطة .. هناء ستظل امرأة .. غلطة .. غلطة ..

    ودخلت عليه هناء فجأة بصحبة الأطفال وهو يدور حول نفسه ، فدهشت لمرآه .. وسألته بتعجب :

    - ما بك يا رجل .. وما هذا الذي تفعله !!

    اقترب منها .. وأخذ يدها – قال يدللها وهو يجلسها على المقعد :

    - أهلاً بزوجتي .. بإمرأتي .. وحبيبتي ..

    - ماذا هنالك يا أحمد .. ؟

    - مبروك يا عزيزتي .. لقد ظهرت نتائج التحاليل .. أنت حامل يا هناء ...

    علقت على فرحه ضاحكة :

    - وهل كل هذا الفرح من أجل الوليد الجديد .. إن لدينا العديد من الأطفال والحمد لله ..

    قال وهو يحتضن العالم :

    - أجل .. من أجل وليدنا .. فهو بشارة خير ..

    كان يكفيه فرحاً أن زوجته ما زالت امرأة .. ولن تكون رجلاً أبداً في أي يوم من الأيام ..


    موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء

    بسمة الزهرة
    بسمة الزهرة
    المراقبــين
    المراقبــين


    حكايات خلف الأبواب  Empty رد: حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:52

    ـ من أجلك يا أعز الناس




    كان ينساب إلى منزله وهو يرزح تحت عبئ من الإجهاد الذي تكاثف عليه – هولاً – في يوم عصيب ، وكان يُمني نفسه في هنيهات الشقاء براحة قصيرة يستمدها من واحة الأمان الضائعة عن مساحات عمره .. لكنه سرعان ما توقف أمام هول المفاجأة الجاثمة عند حدود خطواته ، فراح يتأمل المكان باستغراب ، ويحتضن الأجواء المحيطة به وكأنه يقتحم ليلة من ليالي الحلم المستحيلة .. لم يكن يصدق ما يرى ، ولا بد أن إجهاد العمل المتواصل قد زين له في خياله أوهاماً بات يراها حقيقة .. ولا بد وأن قوىً خفية قد اختطفته إلى دنيا الأماني ، فانتعش لتدفق الحلم وراح يوزع حدقاته على الشموع والأضواء الخافتة .. وعلى الزهور العطرة المتناثرة في كل ركن من أركان المنزل .. حتى المائدة المنسقة والمزينة بأطايب الطعام بدت له وكأنها وليمة رائعة استحضرت من عالم مترف وأنيق .. إلى أن استقرت أهدابه على المرأة الفاتنة التي وقفت تنظر إليه بلهفة وتنتظره بابتسامة عذبة .. هنالك همس إلى نفسه موبخاً وهو يتراجع إلى الوراء بخطوات مترددة ومتحفزة للهرب :

    - ماذا فعلت أيها الأحمق .. إن هذا المنزل ليس بمنزلك .. !

    ولكن المرأة جمدته مكانه بترحيب رقيق :

    - أهلاً .. يا عمري ..

    هذا الصوت .. هذا الصوت ليس بغريب على مسمعه ..

    فرك عيناه ، وسأل بحرج وهو ما زال يعد ساقاه للانطلاق :

    - من أنت ؟

    أجابته بدلال وضحكة مجلجلة ساحرة جعلته يرتعش :

    - ماذا بك يا عزيزي .. أما عرفتني ؟!!

    يا إلهي .. إنها زوجته .. لا .. لا يمكن أن تكون هي ، فزوجته واجمة عابسة ذات شعر أشعث وهيئة مزرية ..

    - زوجتي .. هل أنت زوجتي ؟ ولكن ماذا فعلت بنفسك يا امرأة ؟

    سألها وهو يتأمل أناقتها الجذابة وتسريحتها الرقيقة ، ثم التفت حوله وبدأ يتكيف قليلاً مع واقعه الساحر :

    - وما كل هذا ؟

    أمسكت بيده تشده إلى أقرب مقعد كالمشدوه ، ثم قالت وهي تجلس عند قدميه :

    - كل هذا من أجلك يا أعز الناس ، لقد أعددت لك اليوم ما لذَ وطاب من الطعام والحلويات ..

    سأل بهلع :

    - لماذا .. وما المناسبة ؟

    - وهل يجب أن تكون هناك مناسبة لأفعل ما أفعله الآن ؟!

    قال يسكب وجعه عبر كلمات محرقة :

    - نعم .. وغالباً ما تكون مناسباتك السعيدة ، لا ناقة لي فيها ولا جمل ..

    وتابع يهطل عليها بوابل من السخرية :

    - كما أن هذه الشاعرية ليست من سماتك .. وأنا لم أتعود منك قط هذه اللمسات الحالمة !

    ثم أكمل بحنق :

    - فأنت لا تجيدين سوى الشجار .. والنكد .. ورائحة البصل .. !

    - كنت مخطئة ..

    فاجأته بندمها وأردفت تعده :

    - ومنذ اليوم وصاعداً .. لن تجد مني إلاّ ما يرضيك .

    تضخمت دهشته ، حاول أن يلطم ذهوله بانتباهة مقنعة ، أو يسترجع في ذاكرته سبباً لهذا التحول الخطير .. ولكن دون جدوى ، كان الحدث قد استعصى على استيعابه .. فصرخ :

    - أريحيني .. لماذا تفعلين ذلك ؟

    قالت هامسة :

    - سنتحدث بعد العشاء .. !

    لكنه كان يتقوقع في مجاهل الحذر ، فقال معانداً :

    - بل .. سنتحدث الآن ..

    - كما تشاء يا حبيبي ..

    وأردفت تدخل إلى صلب الموضوع بقولها :

    - كنت فقط أريد أن أذكرك بأمر النقود .. !

    - أية نقود ؟ ..

    - الخمسة آلاف ريال التي ستدفعها لي كي ..

    ضرب على جبينه متذكراً :

    - آه .. كي تشتري العقد الذي أعجبك ..

    - أجل يا حبيبي ..

    والتقط مفاتيحه .. وقفز كالملدوغ .. قال :

    - كنت أعلم بأن هذه الشاعرية المصطنعة لك تخفي كيداً .. بل شركاً .. ولكني لن أستسلم لكيد النساء .. لا .. لن أفعل .. !!!

    وصرخ وهو يقترب من الباب :

    - ألا تفهمين بأن امكانياتي لا تسمح .. ألا تفهمين ؟! ..

    استشعرت هي اليأس في لحظة ، وأدركت بأن تجربتها معه قد فشلت ، فنادته باستجداء وهي تلحق به تهدئ من حدته :

    - حسناً .. حسناً .. كما تريد يا عزيزي ، ولكن لا تخرج الآن .. !

    قال بريبة يبدد سحب الغضب المتجمعة في الأفق :

    - يعني .. ؟!

    - يعني لن أرغمك على شيء .. طالما أنك لا تستطيعه !!

    وسألها من جديد متشككاً :

    - وهذه الحفلات والولائم الشاعرية .. هل ستتوقف ؟

    قالت بصدق :

    - لا .. وأعدك بتكرارها .. ولن يكون وراءها أية مآرب أخرى !

    وبعد عشاء لذيذ .. وحديث شهي ، همس لها من وراء الشموع منتشياً :

    - سأحاول أن أبحث عن عمل إضافي .. حتى أشتري لك كل ما تريدين !! ..





    3 ـ لا أقدر على الحياة .. بدونك



    تندهش لذلك الجانب الحيوي من شخصيته ، لباقته .. وفطنته المغرقة بذكاء متقد .. حتى أناقته تبهرها ، ولعل قامته المهيبة كانت تشعرها – كلما وقفت في مواجهته – بتلك القوة الساحرة والمتدفقة من حضوره .. فتستكين إلى الضعف خاضعة لإرادته ، أجل .. إنها متيمة به ، لكنه لم يمنحها لا الوقت .. ولا الأجواء المناسبة لتطلق نحوه بنسائم عشقها ، فهو على الدوام مكبل بأعماله وإنجازاته .. منشغل بأرقامه وحساباته ، وإذا ما اقتنصت سانحة مواتية لتشاركه نجاحه ، قال يسكب على فضولها بفيض من سطوته :

    - أنت هنا فاتنة هذا البيت الفاخر .. فضعي كل اهتمامك لتلوينه بلمساتك الناعمة ، أما أعمالي .. فلا شأن لك بها .

    كيف لا تهابه .. وهي ترى الرجال بكل عنفوانهم يحسبون له ألف حساب .. رجال وموظفون وإداريون يهرعون للقائه .. ويسعون إلى رضائه ، عند هذا الحد أيقنت أن أسوار شامخة تحول بينها وبينه ، ففقدت الأمل في أن تسود علاقتهما شاعرية العواطف .. وانطوت على نفسها ترعى شؤونها .. تاركة له عمله الصاخب بالنجاحات المتتالية ..

    في صباح يوم دافئ .. وقبل أن يخرج إلى أعماله ، أتته الخادمة بالهاتف .. تبلغه أن ابنة خاله تتصل من الخارج وتريده بأمر هام ، كان لا يزال يتناول إفطاره ، فلم تُلقِ هي بالاً في بادئ الأمر إلى ذلك الترحيب الحار الذي استقبل به قريبته ، لكنها تعجبت أن يملك " وسيم " ذلك القدر من الحنو والمشاعر الرقيقة نحو امرأة ما ، وحين أخذ الهاتف وتسلل بعيداً عنها أدركت أن هناك ثمة أمر غريب يدور في الخفاء ، فألقت الشوكة من يدها وقالت للخادمة بعصبية :

    - إذا سأل عني السيد فأنا في حجرتي ..

    ولم يتوقف الأمر بها عند هذه الواقعة ، حيث أصبحت المحادثات بين وسيم وابنة خاله شبه يومية ، كانت تهاتفه " جميلة " في الصباح والمساء .. وأحياناً بعد منتصف الليل .. وبعد أن تتجمر الغيرة بين جوانحها وتحرقها ، وكي تلجم صوت الشك الثائر في صدرها ، سألته ذات مساء بارتباك تدخل إلى تفاصيل الحقيقة :

    - يبدو أنني لم ألتق بجميلة منذ زواجنا .. أليس كذلك يا وسيم ؟

    قال ببرود وهو يتصفح جريدته اليومية :

    - أجل .. فقد كانت تقيم في الخارج منذ سنوات طويلة ..

    سألته فجأة بعفوية :

    - وما كل هذه الاتصالات بينكما .. ماذا تريد منك .. ؟

    شعرت أن سؤالها قد أغضبه حيث رمقها بنظرة ذات معنى من عينيه الداكنتين ، ثم أجاب باقتضاب :

    - إنه مجرد عمل ، لقد كلفتني .. أن أشرف على ترميم منزلها القديم في الضاحية الشرقية ، لأنها ستحضر للإقامة النهائية هنا بعد أسابيع قليلة ، وخصوصاً وأن زوجها قد توفي قبل أشهر مضت ..

    آه .. هكذا إذن .. فهي أرملة ، ولكن ما سر الاهتمام بها من جانبه ، هل يمكن أن يتجاوز الأمر قرابتهما وينحدر إلى الماضي مثلاً ، كأن يكون هناك قصة حب قديمة أو مشروع زواج فاشل بينهما .. !

    على كلٍ .. لو كان هذا صحيحاً فهاهي تعود إليه من جديد بعد أن غيَّب الموت زوجها .. وأزاله من طريقهما ..

    كانت كل هذه الهواجس تباغتها ، ولا تجعلها تشعر بالراحة أبداً ، وفي إحدى الليالي افتقدته .. كان فراشه خالياً بجوارها ، فتسربت تبحث عنه في كل مكان ، وفي القاعة الرئيسية لمحته يجلس في الظلام ويتحدث في الهاتف بما يشبه الهمس ، تناهت إليها ضحكاته العذبة .. وكلماته الناعمة .. كان يقول :

    - وأنا أيضاً مشتاق إليك ..

    وتابع : اطمئني يا عزيزتي .. سأنهي الموضوع قريباً .. وسيكون كل شيء كما تريدين ..

    وأردف وكأنه على مشارف الخيال :

    - سيكون حفل زفاف رائع .. وستكونين أجمل عروس ..

    لم تقدر على الصمود لتسمع المزيد .. فهرعت إلى حجرتها يُسيَّرُها عذابها .. وأثناء مشيها تعثرت بأريكة جانبية وأسقطتها فتنبه هو لوجودها .. التفت إليها .. وقال بدهشة :

    - أمل .. أنت هنا ؟ ..

    أجابته وتعاسة الدنيا تسكنها :

    - أجل .. أنا هنا لأسمع مخططك للتخلص مني .. لم أكن أعلم بأني مخدوعة إلى هذه الدرجة ..

    وفرت إلى حجرتها تحزم حقيبتها ، وعندما وصل إليها كان اليأس قد أحال ملامحها إلى خطوط شاحبة .. سألها :

    - لم كل هذا .. ماذا تفعلين ؟

    صاحت تكتم شهقات بكائها المتربصة بصوتها المرتجف :

    - إني راحلة .. لأوفر عليك الوقت في الانتهاء من موضوعنا .. الآن فقط عرفت لماذا كنت تبعدني عن عالمك .. لم كنت تحصرني في دائرة حياتك كقطعة أثاث جميلة .. كل ذلك من أجل تلك ..

    قاطعها وهو يهزها بعنف :

    - ماذا تقولين .. ؟!

    قالت تجلس على حافة السرير منهارة :

    - أجل ... ألست تريد الزواج من ابنة خالك .. لقد سمعت كل شيء .. !؟

    أطلق ضحكة مدوية جمدت الدم في عروقها ، قال يقترب منها :

    - أيتها المجنونة .. هل تعرفين أن جميلة هذه ليست إلا أختي ؟!

    صرخت بذهول : ماذا .. أختك !

    هزَّ رأسه : أجل .. أختي في الرضاعة ..

    وقفت وتراجعت خطوات إلى الوراء لا تفهم .. قالت بحيرة :

    - ولكنك كنت تتحدث إليها في موضوع زفافكما ..

    - بل كنت أناقشها في موضوع زفافها إلى صديق لي كان قد تقدم لخطبتها منذ مدة ، لذلك طلبت هي إليَّ ترميم بيتها القديم ليكون عشهما الزوجي ..

    وضعت يدها على فمها تشعر بالخجل ، بينما قال هو بسعادة غامرة يُضيق عيناه فجأة :

    - ولكني .. ما كنت أعلم أن شخصيتك الهادئة .. تخفي كل هذا لغضب ..

    رددت بحياء : هذا لأني .. لأني ..

    نظر إليها بحنان يحثها على الكلام : لأنك ماذا ؟

    أجابته تنظر إلى الأرض : لأني .. لا أريد أن أخسرك ..

    ضحك يشاكسها بجاذبيته : وماذا أيضاً .. ؟!

    قالت تتنفس بصعوبة ، فقد حانت اللحظة التي انتظرتها طويلاً .. ويجب أن تقول ما لديها .. تابعت ترتجف :

    - ولأني لا أقدر على الحياة بدونك ..

    صرخ بانتعاش : يا الله .. أين كانت كل هذه المشاعر الجميلة .. لماذا لم تظهريها لي قبل الآن .. ؟

    قالت بحزن : لأنك لم تمنحني الفرصة لذلك ..

    وقف يتأملها للحظات ثم قال يبتسم لها ابتسامته الدافئة : كم كنت مغفلاً .. كي أحرم نفسي من أحاسيس جميلة كهذه ..

    قالت باعتراض تغطي فمه بكفها : لا تقل ذلك عن نفسك .. فأنت أعظم رجل بالنسبة لي ..

    همس إليها يبدأ معها بداية جديدة : وأنت أيضاً .. أجمل .. وأرق .. وأعذب امرأة في وجودي ..



    4 ـ أمكَ .. سبب المشاكل ..



    كانت قد قررت أن تضع حداً لما يحدث ، أو أن تُنفس عن غضبها في أقرب فرصة سانحة مواتية .. فصرخت – تلك الليلة – في وجه زوجها ثائرة :

    - أمك .. سبب كل المشاكل بيننا !!

    ثم تابعت وهي تذرع الحجرة كالمجنونة : ولولاها .. لكنت أحيا بسلام الآن ..

    تأمل خطواتها المبعثرة بذهول ، ثم قال وهو يقذف أنفاساً كالحمم :

    - وهل تريدني أن أعُقَّ أمي ، أو أن أتشاجر معها .. لكي تعيشي بسلام !!

    - وما ذنبي لأن أحيا في جحيم من المشاكل ؟

    جلس كل منهما كالمشدوه ، وحاولا في لحظات الصمت هذه أن يستجمعا خيوط المشكلة ، لكنه وقف على حقيقة عظيمة ، فهمس كالمسلوب في غمرة انفعاله :

    - إنها أمي .. وإياك أن تنسي هذه الحقيقة ؟؟

    - وأنا زوجتك !

    - وأنا لم أقصر بشيء من حقوقك !

    قالت مُقرة بهدوء : ولم أنكر ذلك أبداً ..

    رجع بذاكرته إلى بداية المشكلة .. وبالتحديد إلى الساعة المتأخرة من الليل التي عاد فيها برفقة أطفاله وزوجته من زيارة أهلها ، كانت أمه تنتظرهم في الصالة المظلمة بينما نظراتها تلتهب من الغضب .. فبادرته بسخرية :

    - الحمد لله على السلامة يا سيد خالد .. ألم يحن الوقت أن تتذكر أمك التي تجلس وحيدة في هذا المنزل المهجور ؟!!

    تغاضى عن كلماتها الحارقة ، فاقترب منها وقبَّل رأسها قائلاً :

    - لم أنساك يا أمي الحبيبة ، ولكنك أنت التي رفضت الذهاب معنا رغم إلحاحنا عليك ..

    قالت بامتعاض بينما كانت توجه إلى زوجته نظرات ذات مغزى :

    - وأنا لا يشرفني الذهاب معكم إلى مثل هذه الزيارات ؟!! ..

    هنا انفجرت المشكلة ، وثارت ثورة " نورا " ، فحاول أن يهدئها ريثما تخلد أمه إلى النوم ثم يتفاهما ، ولكن زوجته بقيت مشحونة كقنبلة موقوتة ..

    تذكر أمه وهي تنتقد طعام " نورا " أمام الجميع وفي كل مناسبة ، وتذكرها أيضاً وهي تنهر الأطفال ثم تتهم أمهم بأنها قد أساءت تربيتهم ، وأخيراً وهي تشكو للأقرباء والغرباء من سوء معاملة " نورا " الغير حقيقية .. فزفر بقوة .. وتمتم :

    - لا حول ولا قوة إلا بالله .. هداكِ الله يا أمي !!!

    تنبه لزوجته وهي تبكي بحرقة وتقول :

    - صدقني يا خالد .. كنت أحاول أن أرضيها وبأي شكل ، ولم أُقصَّر عن خدمتها أبداً ..

    أشفق عليها ، فاقترب منها قائلاً بتأثر :

    - أدرك ذلك يا عزيزتي ، وأعلمه جيداً ، لكنها تبقى أمي المسنة .. والعجوز التي ينبغي أن نسايرها قليلاً ..

    تساءلت باستغراب : لا أدري .. لم تكرهني ، وتكره أهلي إلى هذا الحد .. !!؟

    أجاب بتعقل :

    - لا .. لا يمكن أن تكون كراهية هذه ، ولكننا يمكن أن نسميها نوعاً من الغيرة والأنانية ، فلا تنسي بأن كبار السن غالباً ما يعودون أطفالاً في أطوار حياتهم المتأخرة ، لذلك فهم لا يُحبون مَن يُشاطرهم عواطفهم ولعبهم ..

    ثم أردف ضاحكاً .. ويبدو أنني وأنت أصبحنا لعبتين غاليتين على أمي ..

    قالت جادة : أنت تمزح .. والمشكلة ما زالت قائمة !

    أجاب وقد نفذ صبره ..

    - وما زالت هذه المرأة أمي .. ولا يمكنني أن أغير من هذه الحقيقة شيئاً !

    - إذن وما الحل برأيك ؟!!

    أجابها بحنان :

    - الحل يكمن في أن تعامليها وتتحملي عثراتها كأمك تماماً ..

    ثم سألها :

    - ألا تصبرين على أمك ، وتتحملينها إذا ما أخطأت ؟؟

    قالت وهي تتنهد : بلى ...

    - إذن لم لا تفعلين نفس الشيء مع أمي ..

    قالت باستسلام وهي ترمقه بعتاب :

    - حسناً .. سأفعل هذا لأنك غلبتني في هذه الناحية .. فيجب أن أكون عادلة ما بين أمك وأمي .

    قال يداعبها لينهي المشكلة :

    - سنرى بعد ثلاثين عاماً ، ماذا ستفعلين مع زوجات أبنائك أيتها العجوز المسنة !!

    قالت بإصرار وتحفز :

    - سأكون " حماة " مثالية ..

    ضحك بسعادة .. وقال مؤكداً : وأنا لا أشك بذلك ، لأنك ستكونين دائماً امرأة عاقلة .. وطيبة !!





    5 ـ قرار .. أنتِ تدفعيني إليه



    فجأة .. خرجت عن صمتها ، قالت بحدة وهي تجلس إلى جانبه في العربة ، وتوزع نظرها بينه وبين الظل الذي ظهر أمامها :

    - أنظر أمامك يا رجل ولا داعي للتحديق ...

    التفت إليها مندهشاً :

    - وماذا ترينني أفعل .. إني بالفعل أنظر أمامي ، لأنني ببساطة سائق هذه المركبة ..

    قالت تلوي شفتيها غير مصدقة تتهمه :

    - بل كنت تنظر إلى الناحية الأخرى .. وبالتحديد إلى تلك المرأة التي تقف هناك .

    أخرجته عن طوره .. صاح باستياء :

    - اتق الله يا امرأة .. إنها مجرد عجوز مسنة .. !

    إنها ترصد له الأخطاء وفي كل مناسبة .. حتى وإن كانت غير حقيقية ، فقط يسيطر عليها وهمٌ قاتل بأنه يخدعها .. وكثيراً ما كانت تتخيل بأنه سيتركها يوما ما .. من أجل امرأة أخرى ، لهذا قالت تثيره :

    - هل رأيت .. ! لقد كنت تختلس النظر إليها وإلاّ ما أدراك أنها سيدة عجوز .. !؟

    ضرب بيديه على رأسه .. وهو يكاد يفقد صوابه هاتفاً :

    - من الطبيعي أن انظر نحوها ، فقد كانت تعبر الطريق .. أم تريدينني أن أصطدم بها ؟

    صمتت بامتعاض غير مقتنعة بتبريره ، وفي المساء .. أوشكت الهواجس أن تستبد بها .. والغيرة تنهش قلبها ، فقد تأخر " حمد " وعلى غير عادته في العودة إلى المنزل ، فراحت تذرع المكان بتوتر .. وهي تضع الخطط الأولى للسيناريو العنيف الذي ستواجهه به ، وعندما أشرعت له الباب .. كان يبدو عليه البهجة .. بادرها بانتعاش :

    - مساء الخير يا أروع زوجة في الوجود ...

    قالت تفجر في مسامعه قولاً غليظاً .. ينم عن الغيظ والقهر :

    - ولماذا عدت الآن يا سيد ، لِم لم تكمل سهرتك حتى الصباح ... ؟

    أومئ يفكر فيها ، ليتها تدرك لم يفر منها .. ومن صحبتها .. ومن البقاء إلى جانبها ، ومع ذلك رفع رأسه مبتسماً وأجابها بسعادة :

    - كنت أود ذلك لكن الاجتماع انفض .. والزيارة انتهت ..

    اقتربت منه كي تكيل عليه بكل سخطها ، لكنها توقفت لبرهة .. فقد كان ثمة رائحة غريبة تنبعث منه .. صاحت :

    - ما هذا .. عطر نسائي ! .. عطر نسائي في ملابسك !؟

    أخذ يتشمم نفسه باستغراب ، رفع ياقته وكمه يتأكد من حقيقة قولها .. تذكر فجأة أمراً ، فقال ضاحكاً :

    - آه .. هذا عطر فوزية ، لابد وأنه علق بي وهي تعانقني ..

    انهمرت الوساوس على مخيلتها تحرقها ، علقت بسخرية :

    - ما شاء الله .. وهل يجب أن تعانقك فوزية ؟!!

    قال بغضب :

    - هل جننت ! .. إنها أختي ، وماذا لو عانقتني أختي بعد أسابيع طويلة لم أرها خلالها أبداً ؟! ..

    كعادتها دوماً لم تلقِ بالاً إلى قناعاته .. بل وفوق ذلك قذفته بسؤال وشكوك أذابت صبره .. حين قالت :

    - ولم لا تكتفِ بمصافحة أختك فقط ، ثم ما يدريني أن هذا العطر خاص بها .. ربما كان عطر امرأة أخرى .. !

    كانت تلك الشعرة التي قصمت ظهر البعير ، لقد تحمل غلظتها .. وسلاطة لسانه .. وسخريتها ، تحمل حتى استعلاءها على أهله وأقاربه ، ورغم ذلك كان يفسر شكوكها الحمقاء باستمرار على أنها غيرة غير عادية يدفعها إليها حبها له ، ولكن أن تغار من أخته أيضاً .. أن تشك بأخلاقه وسلوكياته .. فهذا شيء كثير ...

    قال بحزن وهو يتجه نحو الباب تاركاً لها قسوتها وشكوكها :

    - تذكري .. أنكِ أنت التي تدفعيني إلى اتخاذ مثل هذا القرار ..

    لم تفهم قوله .. سألته بحيرة :

    - قرار .. أي قرار هذا ؟

    قال يدير لها ظهره :

    - الطلاق .. والزواج بأخرى ، فإما أن تراجعي حساباتك جيداً ، لتحدّي من شكوكك ومعاملتك القاسية لي ، وذلك لنعيش بسلام .. وإما أن بذهب كل منا إلى شأنه ...

    تركها وخرج ، فرمت بثقل جسدها على مقعد مجاور .. تفكر بكلامه بذهول ..






    6 ـ لا شيء عندي ... أعطيك إياه



    استباح لنفسه قدراً من كرامة النساء .... فاقتطع من حقوقهن ما يعنيه على تسلق القمم ، وتعجب لكونه فرداً آثماً من خلية تنبذه في المجتمع .. شيء ما في قلبه العامر بالحقد كان يدفعه إلى تجاوز حدوده والقفز فوق سياج العادة .. كان يزجه في أعماق التجربة الخبيثة لينجح ، زوجة وراء زوجة ثم يحمل مغانمه ويرحل ، فقط – ينثر مؤامراته في طيات الظلام ثم يرتكز على رغبة كانت ترغمه على أن يكون في القمة .. فوق كل الناس ، جاءه إبليس في حُلة جديدة اللحظة – مشعلاً ليلة حالكة – يتفق معه على خيانة أخرى ، حيث في منزل جاره عثمان ينتشر الهم وظلاله في كل الأنحاء .. فأخته الأرملة تعود إليه متوشحة بالسواد بعد موت زوجها الثري الذي لا بد وأن كل كنوزه قد آلت إليها ..



    هكذا تجسد الحلم في حدقاته مطرزاً ببريق الذهب .. ملوناً بأيام زاهية ، لأجل ذلك صبَّ كل اهتمامه على عثمان كي يكون صديقه .. وبذل مساعيه لعمل البِر .. فهو الذي يحضر الطبيب على نفقته الخاصة إذا ما ألم المرض بأحد أفراد أسرة جاره ، وهو الذي يحل المشاكل ويخفف من حدة الأزمات .. وهو الذي يفعل كل شيء خارق وبطولي .. حتى تراءى للجميع وكأنه فارس مِقدام هب بشهامته الأسطورية من عمق الأزمان البالية كي يشهر سيفه في وجه الشرور ..



    كانت " أمنية " ترقب كل ما يحدث بصمت .. لم يكن أحد قادر على استشفاف ما يدور في رأسها ، فهي رغم جمالها الأخاذ .. وهدوءها الساكن .. كانت تتمتع أيضا بالفطنة والذكاء الحاد ، فرحبت بمبادرات " خليفة " الخيرة .. واستطاعت أن تحجب في قلبها ميلا شديدا نحوه .. ومع ذلك فقد كانت تستمع بين الحين والآخر إلى صوت العقل الذي بات يحذرها من تفاصيل مبهمة .. وبعد خمسة أشهر من التخطيط المنظم للرجل حانت ساعة الصفر وآنت الخطوة الأولى للانتقال إلى النعيم ، تقدم خليفة بخجل شديد من صديقه عثمان يطلب إليه شرف الزواج من أخته الأرملة صاحبة الصون والعفاف .. ولكن الأمر لم يكن هينا كما توقع هو .. فأمنية طلبت مهلة للتفكير بينما عثمان لم يبد الحماس الذي توقعه .. وبعد مشاورات عديدة واتفاق حاسم حول شروط حفل الزفاف والمهر الذي كان مؤخره مليون ريال ، تم الزواج الموعود فدخل صاحبنا إلى قفصه الذهبي منتظرا هطول السعد عليه ، وما هي إلا بضعة أسابيع فقط حتى جاء " أمنية " يمارس عليها أولى حيله .. وأوهمها بأنه معرض للسجن بسبب ديون كان قد اقترضها قبل مدة من أجل زواجهما ، فأعطته بعضا من مصاغها وطلبت إليه أن يتصرف بسرعة كي بحل مشكلته ، وفي تمثيلية أخرى أتاها ينعي سيارته التي عدمت في حادث مروري بشع ولا بد من عربة جديدة تعينه على التنقل هنا وهناك ، عندئذ أخرجت له أمنية البعض الآخر من ذهبها وطلبت إليه بيعه كي يشتري سيارة معقولة ، أما في المرة الثالثة فلم يكن قنوعاً بعطائها الشحيح ، لذلك طالبها بمبلغ كبير من المال مدعياً عزمه على إقامة مشروع يؤمن به مستقبلهما ، فوقفت هي بدورها تقول له بحزن :

    - أنا آسفة .. لا شيء عندي أعطيك إياه ..



    صرخ بلا وعي : ماذا .. كيف ذلك ؟

    قالت : ببساطة لأن الذهب الذي قدمته لي مع المهر .. قد استهلكته كله ..



    قال بدون حذر : وماذا عن أموالكِ الأخرى ؟

    سألته تُمثل البراءة : أموالي .. !!!

    ثم أمعنت في تمثيلها .. فقالت باستدراك :

    - آه .. تقصد إرثي من زوجي السابق .. !؟ ..

    لم يشأ أن يُظهر لها طمعه الذي ينهش رأسه قال بارتباك :

    - هه .. نعم ..

    نظرت إليه تستل نظرة شماته لا سيما وأنها توقعت افتراسه لها

    قالت ببرود :

    - ألا تدرك بأني لا أملك شيئاً من هذا الإرث ..

    ضرب كفاً بكف يتهمها بالمراوغة هتف : إنك تمزحين ولا شك .. !!

    قالت بإصرار : لا .. لقد كتبت نصيبي بأكمله لإبني سامي من زوجي السابق حتى أضمن مستقبله .. وكما ترى لم يتبق لي إلاَّ الستر .

    فجأة انهارت أحلامه وأصبحت حطاماً .. جلس يلملم حسرته على أقرب مقعد ، استنجد بإبليس كي يعينه في ورطته .. لكنه سمعه يضحك منه ساخراً على مشارف نفسه .. إذن .. فقد باءت خطته بالفشل .

    تحايل على ذاته كي تهدأ قليلاً ، وخطر له أن يطلقها ليثأر منها ، ولكن من أين يأتي بمليون ريال قيمة الخلاص منها ، وفي لحظة شتات أبى رأسه أن يستوعب هذه المصيبة .. خرج يُحدث نفسه كالمجنون .. هائماً على الطرقات ..





    7 ـ أغار .. من صديقتكِ .. !



    ينطوي مع خفقة جامحة تعصف بصدره .. ينطوي ويجتاحه الحزن ، فيطلق زفرة بحجم الحيرة التي تكتنفه مندلقة من حنجرته بعنف .. ما السبيل إلى وقف هذا الامتعاض الذي يباغته ! ما السبيل إلى ذلك ! .. وربما أن إطلالة الصباح لم تعد كافية لتغويه على النوم ، يتنهد ويتأمل الجدران من حوله .. حتى المنزل بدونها يشبه قضبان تحاصر قلبه .. حتى مكانه لم ينعم الليلة بصوتها .. يقف بقامة متهاوية ، ويسأل الهواء .. والفراغ .. وعمره الذي بات لا يقدر على الحرمان منها :

    - إلى متى سيستمر هذا الحال .. ؟

    هو يدرك تماماً مدى تعلق ( منال ) بصديقتها ( هيفاء ) .. ويذكر أنه عندما تقدم لخطبتها ، لم تكن تحدثه عن شيء سواها ، لم تكن تأبه لتلك اللهفة التي أخذت تتزايد في وجده نحوها .. لم تهتم بحاجته إلى أن تظل بجواره .. ولا إلى تعلقه وهيامه بها ، وأحياناً كان يقتله السأم لكثرة غيابها عنه ، دائماً تذهب إلى هيفاء وتخرج معها .. دائماً تقيم لديها كلما أصبحت وحيدة بعد سفر زوجها في مهام أعمال مختلفة .. دائماً هيفاء .. فإلى متى هذا العذاب .. ! فاجأته قبل أيام بسلوك اعتاده هو .. قالت له كطفلة تنظر إلى الحاجيات التي ابتاعتها بفرح :

    - انظر .. انظر يا سامي للهدايا التي اشتريتها لهيفاء .. ما رأيك بالساعة .. وهذا الثوب أليس جميلاً .. وكذلك عبير هذا العطر .

    قال يتنهد بحسرة .. فهي لم تفكر يوماً أن تفرحه بهدية تخصه :

    - أجل يا عزيزتي .. إن ذوقك رائع .

    وفي اليوم التالي .. أطلقت عليه برصاص تصميمها :

    - سأذهب للإقامة عند هيفاء بضعة أيام .. فلا يجوز أن أتركها وحيدة وقد سافر زوجها إلى عمله كالعادة ..

    سألها بغيظ : وأنا يا منال .. هل يجوز أن تتركيني وحيداً .. ؟

    قالت تُحايله : لا بأس يا عزيزي .. هي أيام قلائل وسأعود إليك .. ثم إنك رجل قادر على حماية نفسك .. أما هي فلا

    .. لا .. هبَّ واقفاً من جديد .. حقاً إنه لا يقدر أن يرفض لها طلباً .. ولكن ما يحدث الآن لا يناسبه البتة .. لقد أصبحت منال تقضي جُلَّ وقتها مع صديقتها ، إنه بالكاد يراها ويجلس معها .. حتى توهم في الآونة الأخيرة .. بأنه رجل وحيد بلا زوجة أو عائلة .. لهذا يجب أن يحسم هذا الأمر .. وفوراً ..

    عندما عادت إليه .. كان الحزن قد خيم عليه وأفقده كل معاني السعادة .. قالت له بانتعاش تمارس عليه الضغط ذاته ..

    - آه يا سامي .. لقد كان وقتاً ممتعاً ما قضيته مع هيفاء .. إنها صديقتي .. وعمري .. وكل ما ..

    قاطعها بقسوة يواجهها بعذابه كي تراه جيداً : كفى .. لا أريد أن أسمع المزيد ..

    تلعثمت بنبراتها الطفولية المعتادة : سامي .. لماذا أنت غاضب هكذا .. ؟!

    صرخ فيها يمزق صبره : أوتسألين .. أبعد كل ما فعلته بي .. تتساءلين .. !

    ثم نظر إليها بنظرة .. أشعلت بقايا مرحها .. قال بغلظة :

    - منال .. يجب أن تعلمي جيداً .. أنني إذا كنت قد تساهلت معك في بعض حقوقي .. هذا لا يعني أبداً بأنني رجل أحمق ..

    شعرت بخفقات قلبه وبالغضب الذي يملأ خلاياه ، هتفت بحيرة : سامي .. ماذا تقول ؟

    تنهد بشرود وهو يصنع قراره الأخير :

    - الآن يا منال .. وحالاً .. في هذه اللحظة .. عليكِ أن تختاري ما بيني وبين صديقتك هيفاء .. فما يجري قد فاق كل صبري .

    لم تقوَ هي على أن يضعها في مفترق طرق .. صاحت :

    - ما الذي تفعله يا سامي .. وكيف تضعني في هذا الاختبار الصعب .. وأنت تعلم أن لك مكانة ومعزة كبيرة في قلبي ..

    قال بمرارة : بل هي التي تستحوذ عليك يا منال .. لقد تعمدتِ إبعادي أنا زوجك على هامش حياتك من أجلها ..

    قالت تبكي : لا .. هذا غير صحيح .. أنت تعلم جيداً بأنني أحبك ..

    قال يسكب عليها بوجعه :

    - لو كان حقاً ما تقولين .. لكنت منحتِني شيئاً من الاهتمام والدلال والحب الذين تظفر بهم صديقتك وحدها ..

    فجأة .. أدركت فداحة خطأها .. وأدركت بأن هذا الرجل يحبها بلا حدود .. وهي التي لم تبادله مشاعره أبداً .. قالت بخجل :

    - نعم .. نعم .. أنا مخطئة .. مخطئة .. فلم أضعك أبداً في ميزان عادل مع هيفاء أو غيرها ..

    التفت إليها ، فرأى عيناها الدامعتان تتوسل إليه الرحمة .. حتى إن قلبه كاد لينفطر للحزن المطل من وجهها .. اقترب منها وقال بلطف :

    - يا عزيزتي .. أنا لم أطلب منك المستحيل .. ولم يحدث يوماً وأن فضلت أحد أصدقائي عليكِ أبداً ..

    هزت رأسها تؤيده ، قالت تتحسس جرحه :

    - أنت محق .. وأنا فقط من جعلك تقف هذا الموقف .. لأنني لم أمنحك الكفاية مما تستحق ..

    سألها بدهشة : أنا لا أفهم ..

    قالت بطفولتها العذبة : عليك أن تعرف .. أنك الأول دائماً في قلبي وحياتي .. ولن يكون هناك من يأخذ مكانك هذا أبداً .

    همس إليها مبتسماً : وصديقتك .. !

    أجابته ترمقه بشغف وهي تبادله الابتسام : وهل ما زلت مصراً على الاختيار .. ؟

    قال يشاكسها بحنو : ولنفرض أني فعلت ؟

    قالت تضعه في مكانه الطبيعي : سأختارك أنت .. أنت فقط ..


    موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء

    بسمة الزهرة
    بسمة الزهرة
    المراقبــين
    المراقبــين


    حكايات خلف الأبواب  Empty رد: حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:53

    8 ـ الرجال قوامون على النساء ..



    تُمسك – في عتمتها – رزمة من الأحلام ، وتحدق فيها واحداً تلو الآخر .. وفي النهاية تلقي بها جميعاً إلى حافة الظلام .. كم تمنت أن تسيّر الأمور بإرادتها هي بعد الله .. وبإصرارها على أن تحوز يوماً على مستقبل مشرق وأسرة مثالية ؛ ولكن .. هذا هو دأب الدنيا دائماً : أن لا تمنح الإنسان كل ما يريد ، تقلبت طويلاً في فراشها ، وتعجبت للأرق الذي أصابها الليلة ؛ فما الذي دهاها حتى يُجافيها النوم هكذا ؛ نظرت إلى الجسد الراقد بجوارها بهدوء .. وهمست :

    - ليتك تدرك ما فعلته بي يا حمدان ؟! ..

    انتزعت نفسها من طيات سريرها ، وقامت تطارد هواجس كانت تعصف برأسها .. ذكريات تنصب على رأسها المجهد فلا تستطيع منها فكاكاً ، لا شك أن كوباً من الحليب الساخن سيعيد النعاس إلى جفنيها ، فأعدته على عجل ثم جلست في القاعة المظلمة .. مستسلمة لأفكارها ..

    كان حمدان شاباً وحيداً لامرأة أرملة ، وكان في بداية حياته الوظيفية عندما تقدم لخطبتها ، في ذلك المساء ربت والدها عليها بحنو وهمس قائلاً : " إنه شاب طيب وعلى خلق .. وأرى أن نزوج من نرتضي خلقه ودينه " ..

    لم تَصْحُ على الحقيقة المرة إلا بعد أشهر معدودة من زواجها به ، وهي أن حمدان المدلل كان يخفي عجزه عن تحمل المسئولية وراء ستار زائف .. من حسن الخلق والدين .. خصوصاً وأن أحشائها كانت تموج بوليدها " خالد " الذي بات يعبث ولا يهدأ ، وذلك حين دخل عليها حمدان مغاضباً لا يلوي على شيء .. وكانت البداية ، فقد تم فصله من العمل لمشاجرة وقعت بينه وبين زميله حيث أراده جريحاً ..

    وبعد إطلالة خالد على الدنيا ، جاءها حمدان بنبأ شؤم آخر .. قال بحيرة :

    - ما الذي يحدث لي بالضبط ، فهذه الوظيفة الثالثة التي أُطرد منها خلال أشهر قليلة فقط .. !!

    ومع ولادة ابنها سامي ، كانت أحوالهما تزداد سوءً ، وكان يجب أن تحسم المسألة فوراً ، فعزمت أمرها .. وتوكلت على الله ثم قررت العمل ، لا سيما وأن حمدان كان قد بدأ ببيع سيارته وبعضاً من الأثاث والأجهزة الكهربائية ، ومنذ ذلك الحين وهو يُلقي على كاهلها بكل الأعباء ، مسئوليات البيت .. والأولاد .. والعمل ، حتى مشاكله الخاصة والصغيرة كان يلجأ إليها لتحلها له ، وذلك حتى حدث وأن تعاقب عليها يوم استعرت فيه أعماقها بالويل .. والحزن .. وإنهاكات الحياة ، كانت بالكاد تقدر على الحراك بسبب حملها الجديد ، فدخلت إلى المنزل تريح نفسها من مشقة العمل .. وضجيج الطريق ، لتجد حمدان ينتظرها بصبر فارغ كي يزيدها ارهاقاً وتعباً ، قال لها بحدة الزوج المستبد :

    - أين معطفي الرمادي يا سيدة .. إنني لا أجده في الدولاب ..

    أجابته تخلع عنها عباءتها .. وتضع يدها على رأسها من حدة الصداع :

    - ربما أنه في مكان آخر يا حمدان .. ابحث عنه جيداً ..

    صاح بغضب :

    - ماذا .. أبحث عنه ، وما دورك في هذا البيت .. حتى أبحث أنا .. !؟

    في تلك اللحظة كانت تمنع نفسها من الانجراف وراء الغضب حتى لا تجرحه ، ومع ذلك انفلتت منها جملة مريرة .. قالت :

    - لا أدري ما هو دوري .. قل لي أنت ..

    أراد أن يستشعرها برجولته .. فقال متوعداً :

    - اسمعي .. لا أحب أبداً أن تحدثيني بهذه الطريقة .. فأنا الرجل في هذا البيت ، ولا تنسي قول الله في كتابه العزيز : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " .....

    صمت فجأة على إكمال الآية ، فقالت تحثه بقهر :

    - لم لا تكمل .. لم لا تقول " وبما أنفقوا من أموالهم " ....

    قال ينبض في أوردته الجرح :

    - أتعايريني .. يا حسناء .. !

    قالت بندم ..

    - لا .. ولكني أردت أن أوضح لك نقطة كانت غائبة تماماً عن ذهنك ، وهي أن الأدوار قد انقلبت بيننا في هذا البيت ، فأنا أعمل وأنفق .. وكذلك أقوم بالطهي .. والتنظيف .. ومذاكرة الأطفال ورعايتهم ، بينما أنت لا تفعل شيء .. فقط تجلس في البيت تلبس وتأكل وتنام .. حتى الأولاد .. يبقون في حضانة أمي أو أمك معظم الوقت لأنك لا تحب ضجيجهم ولا تقدر على متابعتهم .. فما دورك بالتحديد وسط هذه المسئوليات التي أقوم بها وحدي ؟

    قال يقر قولها بخجل :

    - نعم .. أعلم أنني أحمّلك فوق طاقتك .. وأنني يجب أن أمد لك يد العون وأجد عملاً في القريب العاجل ..

    قالت تشجعه بمودة :

    - المهم أن تستمر فيه يا عزيزي .. أن تحسن التصرف ، ولا تقوم بالتشاجر والتخريب ..

    قال يعدها خيراً :

    - صدقيني .. سأفعل كل ما يرضيك .. وسأكون عند حسن ظنك إن شاء الله ..

    حدث هذا منذ أشهر بعيدة ، وحتى الآن .. لم يطرأ ما يبشر بالخير على حياتها مع حمدان ، ومع بزوغ الفجر .. انتبهت حسناء إلى كوب الحليب الفارغ في يدها ، كانت قد تجرعته دون أن تستسيغ طعمه ، فقامت تصلب قامتها .. وتخطو إلى حجرتها بتثاقل .. محرضة نفسها على النوم ، لمواجهة .. يوم .. شاق .. آخر !! ..





    9 ـ أنت طالق .. يا ليلى



    أصابه شيء من الإحباط ولوعة النفس ، لم يكن يعلم أي الدروب يمكن أن يطرق وهو عائدا إلى منزله من المسجد ..

    شريدا تطارده خيبة الأمل ولواعج الهم .. صائبا بكل ما يخالف الفضائل أو يخرج عن الملة ، كادت عيناه أن تستسيغ ذرف الدموع لولا أن كتم الشهقة التي تجثم على صدره الحزين ، فدخل إلى منزله يتمتم بالاستغفار حين وجدها كعادتها تجلس أمام التلفزيون تقلب قنواته غير مكترثة لوجوده .. أو لقسماته التي تلونت بالإيمان واستهجان سلوكياتها المعوجة ...

    جلس على المقعد وراح يتأملها بحسرة ، ثم أسقط رأسه إلى الوراء يتتبع خطوط البداية بعينين تغوصان في ذكرى مريرة ، وتحديدا إلى سنوات قد خلت حيث راح زميله " يندر " يسهب بالحديث عن أخته " ليلى " ذات الدين والجمال والأخلاق الرفيعة ، ما زال يذكر حديثه ذاك الذي كان يدعوه من خلاله لأن يطلب يدها ، قال له " بندر " باعتزاز :

    - إن من يتزوج بأختي سيكون رجلا محظوظا بلا شك ، فهي تجمع ما بين الصلاح والعلم والثقافة ..

    وهمس إليه مبتسماً : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " .

    وبعد أسابيع قليلة كانت تدخل " ليلى " إلى منزل " عادل " كزوجة فاضلة كان يبحث زوجها من وجودها عن الحظ والسعادة .. ولم يخب ظنه أبداً .. حيث كانت ليلى نعم الزوجة الطيبة الوفية ، التي كانت تستنزف كل جهودها وعطاءها لتصنع منه رجلاً سعيداً ، بل إنها آلت على نفسها أن تصلح في عادل ما أفسده الشيطان عليه فراحت تمتعه بحديثها العذب ودروسها الإيمانية المتواصلة في التقوى والفضيلة إلى أن وضعته على الطريق المستقيم ، قالت له يوماً بحياء بالغ :

    - ستصبح أباً عمّا قريب يا عزيزي .. وكم أنا سعيدة بأنه سيكون لابننا أب صالح مثلك .. !

    همس لها حينئذ يبثها طمأنينة نفسه : وأنتِ إن شاء الله ستكونين الأم المثالية لولدنا أيضاً ؟؟

    ولكن المثالية التي كان يرجو دوامها انقلبت إلى شر .. وليلى .. تلك المرأة الفاضلة تحولت إلى وحش نهم أخذ يلتهم طمأنينة عادل وفرحه ، حيث أنجبت زوجته طفلهما الأول .. وجاء " سعيد " إلى الدنيا يشيع البهجة في قلب والديه اللذان لم يكن لهما شاغل سواه ..

    حتى تعاقبت الأيام بأحداث الأيام بأحداث غريبة ، فجأة تغيرت ليلى بعد أن صادقت إحدى السيدات المتحررات ، التي عرفّتها بدورها على نسوة لا يقللن عنها شأناً في الأخلاق الفاسدة وفي الاجتماعات التي لا تخلو من الغيبة والسخرية بالأخريات ، وشيئاً فشيئاً أخذت ليلى تهمل طفلها وبيتها ، أصبحت تميل إلى الكسل والخروج بعد أن خلعت عنها التزامها الذي كان يميزها ، وتمادت في أخلاقها الفظة فباتت لا تُكن لزوجها أي مودة أو احترام ، وعندما كان يواجهها عادل بأخطائها كانت تصرخ فيه طالبة منه الطلاق ، في كل مرة تفعل ذلك وتهدده بالطلاق ...

    وفي كل شجار بينهما تطلب إليه أن يحررها منه ، حيث هو كان يتحصن بالصبر ويمنحها فرصة وراء الأخرى علَّها تفيق من غفلتها وتعود إلى صوابها ، ولكنها أبداً لم ترجع عن طريقها الشائك . بل إنها استرسلت في عنادها فأدخلت الدش إلى بيتها ورغماً عن زوجها .. كما أنها أصبحت تخرج وتدخل إلى منزلها دون أن تستأذنه أو تعيره أي اهتمام ، فأحالت حياة رجلها إلى كومة من العذابات المتتالية ..

    استيقظ من شروده على صوتها وهي تسأله بغلظة :

    - ألن تشتري لي ذلك الثوب الذي رأيته قبل يومين ، فموعد حفل صديقتي قد اقترب .

    اعتدل في جلسته ثم رمقها بمرارة وهو يقول : لقد أخبرتك من قبل .. بأنه باهظ الثمن .. وإمكانياتي لا تسمح بشرائه ..

    صرخت في وجهه بوقاحة : بل قل أنك لا تريد شرائه لأنك رجل بخيل ورجعي .. تماماً كما وصفتك صديقتي هناء ..

    نهض من مقعده يستبد به السخط ، لم يعد هناك من سانحة أخرى يمكن أن يمنحها إياها بعد أن أصبحت تتطاول عليه على هذا النحو .. وقد آن الأوان لينهي هذه المهزلة التي تدمر عمره .. قال لها بأنفاس محترقة بينما هو يكز على أسنانه :

    - بل أنت امرأة ناقصة دين وأدب .. وأعرف تماماً كيف أجعلك تثوبين إلى رشدك ..

    أجابته ببرود وسخرية : ماذا ستفعل يعني .. ؟!

    تحرك بسرعة أمام عينيها يحمل التلفزيون وجهاز الدش ويهوي بهما إلى الأرض بينما صرخاتها تحاول أن تمنعه .. وبعد أن أنهى مهمته .. التفت إليها وسط الحطام قائلاً :

    - لقد صبرت عليك طويلاً .. ولكن دون فائدة .. وربما أنه حان الوقت كي أحقق رغبتك ..

    سألته يخوف وقلق : ماذا تقول .. وأي رغبة تعني .. ؟

    قال لها يدلق بصوته كل أحزانه السوداء : أنت طالق يا ليلى .. طالق .. طالق ..

    ثم أضاف بقسوة : أخرجي من هنا .. ولا تفكري بأن تأخذي " سعيد " معك .. لأن مثلك لا تصلح أن تكون أماً له ..

    ودخل إلى مكتبه يمنحها فرصة أن تحزم حقيبتها وتخرج من بيته الذي خربته بيديها وأحالته إلى جدران حزينة .

    أما هي .. فكانت الصدمة تذهلها .. وكانت حدقاتها الدامعة تومض بالندم وبوادر التوبة وهي تفتش عن الحل لهذه الكارثة التي أثارتها بنفسها .. !







    10 ـ لا أحب مثاليتك الناعمة .. هذه



    لم يرقها أبداً الواقع الذي يجمعها برجل خيالي ، فارس تذوي قواه في حضرتها .. فارس بلا ملامح .. سيفه ناعم .. وخصاله مثل نسائم فجر تهب على ضعفها بالحنان المفرط فتثير حقنها ، ذاك هو زوجها ، مخلوق مرهف .. وشفاف لا يتواءم مع حساسيتها الأنثوية ، وإن حاول يوماً أن يثور أو يغضب ، فيتلون محياه بحمرة الارتباك والنقمة على نفسه ، لأنه لا يقدر على إسعادها كفاية .. أو لأنه يعجز أن يكون مثالياً معها إلى درجة الكمال .. هكذا كان يعتقد لذا كان يستفزها بسلوكياته المنبثقة دائماً من محاولة إرضاؤها ، يأتيها في المساء هائماً بحبه يحمل باقة من الورود .. وهدية مغلفة بابتسامة العاشقين ، ثم يطلب إليها أن تسترخي بدلال ريثما يعد لها الطعام أو فنجال من القهوة على ضوء الشموع الخافتة ، لم يكن يحب أبداً أن يراها تجهد نفسها أو حتى يلمس لديها شيء من الضجر .. ولم يكن هذا أيضاً ما كانت تحلم هي به ، بل كانت أمنيتها تتوالد في خيالها الخصب بأن تجمعها الأيام برجل مغاير تشعر معه بكل ضعفها أمام قوته الجارفة .. رجل يعلمها فنون الحياة الفطرية .. فتحتمي بظله باحثة عن الدفء والأمان ، أما هذا الذي تعايش معه حياة مريحة للغاية .. حتماً هو بعيد كل البعد عن كل ما يجول في رأسها المتعب من خواطر مرهقة .. حتى أنها قالت له يوماً تلقي بوروده على الأرض :

    - لقد مللت .. مللت هذه الحياة ..

    انتفض قلبه لتذمرها .. حيث أسرع صوبها متلهفاً لنجاتها :

    - ماذا تريدين حبيبتي .. هل تحبين أن نسافر كي نجدد من نشاطنا .. أم تفضلين تغيير هذا المنزل .. كي أمنحك حياة جديدة ؟

    صرخت في وجهه بألم : أنت لا تفهمني .. ولن تفعل أبداً .. فأنت من يحتاج إلى التغيير ..

    قال بخيبة أمل : وبماذا قصرت معك يا منى .. حتى تقولين ذلك يا عزيزتي ؟ ..

    همست إليه تسمعه شهقات قلبها الرافض خنوعه إليها :

    - هذه هي المصيبة .. أنك لا تقصر بشيء .. وأنا لا أريد ذلك .. أفهمت .. أنا لا أحب مثاليتك الناعمة هذه .

    وظل لا يفهمها أبداً .. وتمادى أكثر في تدليله لها .. حتى عاد يوماً إلى المنزل ليجدها قد غادرته .. تاركة له رسالة كتبت فيها :

    " أنا أريدك رجل قوي يعتز برجولته ، رجل لم يُخلق للخضوع لامرأة مثلي قط .. وإنما ليكون لها الزوج والشريك والحامي .. فإن استطعت أن تصبح كذلك .. فأنا لك مدى الحياة .. وإن لم تستطع فهو الفراق بيننا .. "

    بعد ثلاثة أشهر أعادها والدها إلى بيتها مرغمة .. بعد أن اتهمها بقسوة أنها إمرأة مجنونة لا تدرك قيمة زوجها أبداً ..

    فجلست تندب حظها في حجرتها لأنه ليس هناك ثمة رجل على الأرض يفهم مبتغاها ..

    وفي المساء عاد " ماجد " إلى المنزل بوجه مكفهر .. عالماً بوجودها من خلال اتصال هاتفي من أبيها ، وكان أول ما فعله عند اقتحامه للقاعة أن نادى عليها بغلظة : منى .. يا منى ..

    خرجت إليه تماطله وهي تنظر إليه بقرف : ماذا تريد ؟

    اقترب منها وتوعدها بغلظة : مرة أخرى حين أناديك .. عليك أن تتركي كل شيء .. وتأتين من فورك !

    أجابته ببرود وسخرية : وها قد أتيت .. فماذا تريد أيها الحالم .. الضعيف الشخصية .. ؟

    فجأة رفع يده ولطمها على صدغها بعنف قائلاً : كيف تجرؤين على السخرية مني ؟

    بقيت دقائق طويلة مسمرة في مكانها .. لا تستوعب ما حدث ، أهذا هو " ما جد " السلبي الشاعري .. هل يمكن أن يتبدل وبهذه السرعة .. لم تصحو إلا على صوته وهو يأمرها بتسلط :

    - هيا .. اذهبي وأعدي لي الطعام .. فأنا أتضور من الجوع .. هيا .. ماذا تنتظرين .. ؟!

    وبدون كلمة انصاعت لأمره وهي تقول بضعف : حالاً .. حالاً يا عزيزي ..

    نعم .. لقد تغير ماجد كلياً .. يا لسعادتها .. لقد أصبح قريباً من الرجل الذي تتمناه .. بل إنه قلب حياتهما وأدوارهما رأساً على عقب .. فباتت هي التي تنتظره كل ليلة بلهفة وصبر فارغ بينما روائح الطعام الشهية تفوح على المائدة وسط الشموع والأجواء الساحرة التي صنعتها لأجله .. لأجله فقط ..

    وفي لحظة صفاء سألها وهي تلقمه من الحلوى التي أعدتها له :

    - ها .. هل أنت سعيدة الآن .. ؟

    تنهدت بارتياح : وكيف لا أكون سعيدة يا حبيبي .. وأنت تجعلني أبدو وكأني ولدت من جديد ..

    همس إليها مشاغباً : إذن فأنت تحبين الرجل القاسي والفظ ؟

    عارضته برقة : بل أحب الرجل القوي .. الذي أشعر بجانبه بالأمان والحماية .. وبأنني كائن ضعيف ومدلل ..

    ضحك يمزق ستائر الليل بقهقهة صاخبة كادت أن ترجفها :

    - حقاً .. إن عالمكن غريب أيتها النساء .. عالمكن غريب جداً ..





    11 ـ أرقام مجنونة



    كانت تنزوي في المقعد الجاثم عند المدخل الرئيسي للصالة ، كمن لا حيلة له وسط ضباب الأفق القاتم .. تتجهم للغموض المتلاحق على جبين الأحداث اليومية – في حياتها – بمستجدات غريبة ..

    لم تكن تفهم تلك المعاني المبهمة في السلوكيات الأخيرة لزوجها ، ولم تشأ أن تغوص في أعماقه ، أو تنبش أفكاره .. حتى لا يصفعها بمفاجأة لعينة .. فتركت الأيام تحل لها لغز اعتكافه عنها .. في حين كانت أعصابها تزداد توتراً .. وقلقاً ، حيناً بعد آخر !

    تنهدت بمرارة ، وقالت محدَّقة في الباب المغلق في آخر الردهة :

    - آه .. لو أعرف ما يجري هناك !!

    خطر لها – وسط حيرتها – أن تقوم من فورها وتقتحم حجرته لتقف على ما يدور بين جدرانها من أسرار ، لكنها سرعان ما تراجعت حين داهمها طيفه الواجم ، مذكراً إياها .. بأوامره الصارمة :

    " لدي عمل هام .. ولا أريد أن يزعجني أحد ! "

    كل يوم لديه عمل هام .. وكل يوم ينأى بجانبه عنها وعن أطفاله .. أي عمل هذا الذي يدفنه في أحشاء عزلته لساعات طويلة ! .. وأي عمل يجعله يزهد بكل شيء .. حتى بطعامه وشرابه .. !

    أدركت أن ثمة سر خطير في الأمر ، فوسوست لها الهواجس بظنون جعلتها تنتفض :

    - لا .. هل يعقل أنه يخطط لزواج جديد ؟! ..

    ارتعشت وشحب لونها حتى شعرت بالدوار .. لم تقدر على الصبر أكثر من هذا .. فقفزت من مقعدها تفتش عن محاولة ناجحة لاقتحام المكان وبأي وسيلة .. وجاءتها أفكارها .. بخطة جهنمية !!

    بدأتها بكوب من الشاي الساخن مرفقاً بطبق أنيق من البسكويت المزين بالقشدة ، ثم مرت بحجرتها بسرعة لتغير من هيئتها ، وتُغدق على أنوثتها بأناقة صارخة ..

    راحت تحدثه – في همس – وهي تضع أحمر الشفاه : الويل لك يا عبد الرحمن إن كنت تنوي الزواج ..

    ثم وهي تكز على أسنانها ، وتسرح شعرها بطريقة تعجبه :

    - الويل .. والويل لك !

    زجرت أفكارها أمام باب حجرته .. ثم رسمت على محباها ابتسامة رائعة ، وانسابت بعجلة إلى الداخل حتى لا تسمح لصوته بأن يأمرها بالعودة .. كانت تسير بسرعة كبيرة حين توقفت في منتصف المسافة ورسمت على جبينها علامة تعجب هائلة ..

    هل تصدق ما ترى ! أم أنها ظلمته !!

    بدا لها مخلوقاً آخر وهو منكمش على نفسه فوق مكتبه ، ومستغرقاً في عمل لا تدري – هي – ماهيته .. كان أشعث الرأس ، طويل الذقن .. يرتدي نظارة على عينيه ويضع الأخرى على قمة رأسه ، في حين كان يكتب بقلم ويعلق غيره فوق أذنه الشمال .. وكتب وملفات – وأجهزة حساب تبعثرت حوله بفوضى عجيبة !!

    همست لنفسها بدهشة وهي تكمل سيرها نحوه :

    " ترى .. ماذا يفعل هذا الرجل ؟ "

    لكنها توقفت من جديد ، حين سمعته يتمتم بعبارات غريبة :

    - إذن الشهر الثالث : دعوة إبراهيم + مصروفات أحمد في المستشفى + ثوب جديد لطلال + إصلاح السيارة .. يساوي ..

    " هل يمكن أن يسجن نفسه من أجل هذه الحسابات فقط ! "

    شعرت برغبة عارمة في الضحك من هواجسها المجنونة .. لكنها تماسكت ، ونادته تنبهه لوجودها :

    - عبد الرحمن !

    كان مستغرقاً في أرقامه حتى أذنيه ، فلم يسمعها .. كررت النداء هذه المرة وبصوت أقوى :

    - عبد الرحمن ..

    رفع إليها رأساً يكتنفه الدوار .. وتجهم لانتهاكها حرمة أوامره ، فاستدركت الوضع وقالت بدلال ومكر :

    - لقد قلقت عليك .. ورأيت وقد انقضى عليك زمناً في مكتبك ، أن خير وسيلة لإنعاشك هو كوب من الشاي الساخن ..

    وأردفت وهي تتوقف بمحاذاته :

    - وقلت لنفسي لا بد وأنك تشعر بالجوع الآن ، لذا أحضرت لك قليلاً من الحلوى التي تفضلها !

    ساورها الفضول من جديد وهي تنظر إلى الأوراق المتناثرة .. من فوق كتفه فسألته :

    - ماذا تفعل .. ؟

    أجابها بضجر .. مستنداً بجسده المنهك إلى ظهر المقعد :

    - إنني أحاول أن أحل اللغز .. !

    - أي لغز هذا .. ؟

    سألته بلا مبالاة .. بينما أخذ هو يفسر لها المسألة بغيظ :

    - لغز المعاش الذي بات يتبدد مني بعد انقضاء أسبوعين فقط من استلامه ..

    وتابع يضرب المكتب بقبضته :

    - لغز الديون التي بدأت تتراكم فوق رأسي .. والشكاوي التي بدأت تلاحقني .. !

    ضربت على صدرها تسأله بذهول :

    - ديون .. وشكاوي ، لماذا ؟ .. !

    - أتريدين أن تعرفي لماذا .. اسمعي !

    التقط ورقة من كومة الأوراق أمامه .. وراح يقرأ لها محتوياتها بصوت غاضب :

    - أجور المنزل والخادمة والمدارس الخاصة ، فواتير الكهرباء والتليفون والمغسلة ، ملابس جديدة وإكسسوارات شهرياً ، حفلات وولائم لصديقاتك .. هدايا باهظة لجاراتك وقريباتك .. اشتراك نادي .. اشتراك شهري في المطاعم ، لأن حضرتك تأنفين من الطهي ..

    حدقت به :

    - ما شاء الله .. إذن أنا الجانية الوحيدة وسط هذه المشاكل ..

    وأكملت تكيل عليه بالتهم :

    - ولماذا لم تذكر مصروفاتك الشخصية ، ودعواتك الأسبوعية لأصدقائك .. لماذا لم تذكر الأجهزة المختلفة والساعات والعطور التي تشتريها بين الحين والآخر .. لماذا تلقي باللوم علي وحدي .. ؟!

    قال بضيق يائساً :

    - لأنك شريكتي في الحياة ، وسيدة هذا المنزل .. وعليك أن تشاركيني أعباء الإنفاق وتنظيمها .. ؟

    قالت بعناد :

    - مهما يكن .. لست وحدي المسؤولة ..

    أجابها معترفاً :

    - أنا لا أنكر بأن كلانا مخطئ في مسألة الإسراف .. ولكن ..

    رمى القلم من يده بعصبية ، قائلاً بعد زفرة طويلة :

    - ولكن هذه الفوضى في الإنفاق يجب أن تتوقف ، وإلاّ وجدت نفسي في النهاية .. في موقف لا أحسد عليه !!

    قالت .. تصطاد في الماء العكر :

    - اقترحت عليك مراراً بأن أعود إلى عملي .. وأنت الذي كنت ترفض ..

    صاح محذراً :

    - لن تعملي .. ولن أعود لمناقشة هذا الموضوع ثانية ، حتى لو غرقت في الديون إلى هنا !

    أشار إلى جبهته .. وأردف بكبرياء :

    - لست أنا من يتطلع إلى أموال زوجته .. أو مساعدتها !

    وقال ساخراً :

    - ثم أن عملك لن يحل المشكلة أبداً يا سيدتي ، بل سيزيدها تعقيداً .. هذا لو وضعنا في الاعتبار مصروفاتك الشخصية اليومية من ملابس وحلي وأجر سائق وغيرها .. بالإضافة إلى أولادنا الثلاثة الذين سيقعون ضحية للخادمة ، وللمشاكل التي ستنشأ وتتفاقم بسبب تغيبك عن المنزل ..

    قالت بامتعاض .. تغير الموضوع :

    - إذن .. ما هو الحل برأيك ؟

    دار من وراء مكتبه دورة كاملة ، وراح يتسكع في أحضان الحجرة ، وبعد هنيهة قال :

    - الحل الوحيد ، هو أن نضع ميزانية منظمة للإنفاق الشهري ..

    - وماذا يعني هذا ؟

    قال برجاء :

    - يعني أن نقتصد قليلاً في مصروفاتنا .. حتى نتجاوز الأزمة ..

    أجابته بغرور :

    - إن مستواي الاجتماعي ، لا يسمح لي أن أظهر أمام صديقاتي بمظهر المرأة المقتصدة .. أو المغلوبة على أمرها .. !

    سألها ، يصب عليها بعبارات ساخنة :

    - أليس ذلك خيراً من أن تظهري أمامهن بمظهر السيدة البائسة الذي سجن زوجها بسبب ديونه .. ؟

    ارتجفت لتعليقه فجلست تفكر بالأمر ملياً .. وبعد دقائق جاءها صوته متسائلاً :

    - ها .. ماذا قلت ؟

    نهضت واقتربت منه باستسلام : حسناً .. كما تريد ..

    وهمست إليه صادقة :

    - وكما دللتني في الرخاء .. فلن أتخلى عنك في الشدة


    موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء

    بسمة الزهرة
    بسمة الزهرة
    المراقبــين
    المراقبــين


    حكايات خلف الأبواب  Empty رد: حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف بسمة الزهرة السبت 2 أبريل - 1:53

    12 ـ خضراء الدمن



    انتهى الأمر .. فقد وضع شروطه ومواصفاته .. وراح يُمني نفسه بالسعد وتفاصيل الفرح ، لم يكن يأبه لمعايير الأخلاق .. والدين .. والثقافة ، المهم أن تكون زوجة الغد حسناء وحسب ، جميلة .. شقراء .. ذات عينين ساحرتين وقوام جذاب ، جميلة لا يُماثلها بالحسن أحد من بنات جنسها ، لذا ترك مهمة البحث الشاقة عن حوريته الموعودة إلى أمه وأخته فريدة ، حيث دخلت ذات يوم الأم المجهدة تتبعها ابنتها الواجمة بينما بشائر الفرج تلوح على محياها ، قالت له فريدة بدون حماس :

    - يبدو أننا قد وجدنا ضالتك يا حسن ..

    صاح بفرح متهللاً :

    - حقاً .. هل وجدتماها أخيراً بعد هذا البحث المضني الذي استغرق أياماً وشهوراً !؟ ..

    قالت أمه بحزن : أجل يا بني .. وجدناها ، وهي بالفعل حسناء .. لكنها فظة وجاهلة .. كما أن الشائعات تطاردها وتطارد أمها .

    قال ينظر إلى حلمه بعينين يشع منهما وميض الأمل :

    - لا يهم يا أمي .. أريد هذه الفتاة وبأي ثمن .. حتى لو طُلب إلي وزنها ذهباً ..

    نظرت الأم إلى ابنتها باستياء .. ثم التفتت إلى ابنها ناصحة :

    - ولكنها يا يني سيئة الخلق والتربية ، والرسول عليه الصلاة والسلام حذر من خضراء الدمن. وهي الحسناء في منبت السوء ..

    قال يكبح من جماح الحقيقة ببروده :

    - لا عليك يا أمي .. غداً سأعلمها كيف تكون زوجة صالحة .. ستكون كما تحبين إن شاء الله ..

    غير أن الحسناء التي انتقلت إلى بيت زوجها الهائم بها .. حيث كانت أمه وأخته تشاركانها في المسكن لكون " حسن " المعيل الوحيد لهما ، راحت تعد العدة بعد شهور قليلة لتشعل البيت بحرائق الشقاء والفتنة ، فكانت تأتي بسلوكيات غريبة على الأم والأخت وذلك حين كانت تسهر طوال الليل – وبعد استغراق زوجها في النوم – تتحدث في الهاتف إلى شخص مجهول – فتتعمد أن لا تصحو من نومها إلا متأخرة .. وأن لا تساعدهما بأي عمل من أعمال المنزل .. بل إن زوجها لم تقم بواجبها نحوه على أكمل وجه .. فهما اللتان تطهيان الطعام له وكذلك غسل ملابسه وكيها .. أما هي فلم تكن مهمتها تنحصر فقط سوى بتنظيف حجرتها التي كانت تهمل ترتيبها بين الحين والآخر ..

    ومع مرور الأيام .. وصبر أم حسن وأخته على زوجته الحسناء ومعاملتها لهما بقسوة وغلظة .. وكذلك على تصرفاتها الغريبة ، بدأ الرجل يستسيغ نفور حليلته من أمه وأخته ، وخصوصاً عندما كانت تنفرد به في حجرتها لتحيك الدسائس ضدهما وهي تدعي البكاء وتتهمهما بأنهما تكرهانها وأنهما تعاملانها بغطرسة فلا تدفعانها لمساعدتها في أعمال المنزل لأنهما لا تثقان بها أو بنظافتها ، مما أوغر صدر حسن على أمه وأخته فبات هو أيضاً يعاملهما بجفاء ، ولا يجلس إلى صحبتهما إلا قليلاً ، الأمر الذي أثار حزن الأم إلى ما آل إليه مصير ولدها في أن أصبح ألعوبة بيد زوجته الحسناء .

    وتشاء إرادة الله أن تكشف خبث الزوجة وخيانتها المقيتة ، حين عاد حسن ذات يوم إلى منزله مبكراً ليأخذ ظرفاً خاصاً بفواتير الهاتف لتسديدها كان قد نسيه ، هنالك دخل المنزل بهدوء وتوجه من فوره إلى مكتبه دون أن يشعر به أحداً باحثاً عن أوراقه ، وفي نفس الوقت كانت فريدة تطرق الباب على زوجة أخيها حيث فتحت لها الباب قائلة بتمرد :

    - خيراً .. ماذا تريدين .. أيتها العانس الحقودة ؟

    قالت فريدة متنهدة بصبر : كنت أريد ملابس أخي المتسخة كي أغسلها له .

    أجابتها المرأة المتجهمة بغرور : حسناً .. ادخلي .. ولا تنسي أن تأخذي ثوبي الأخضر وتكوينه .. لأني خارجة بعد قليل ..

    سألتها فريدة بدهشة :

    - وإلى أين تريدين الخروج بدون إذن زوجك .. ثم ألم تلاحظي بأن خروجك قد كثر في الآونة الأخيرة ؟

    قالت لها حسناء بتعالي ودلال :

    - وما دخلك أنت .. ثم ماذا فيها إن خرجت كل يوم لزيارة أهلي .. هل يسوءك هذا ؟

    قالت فريدة بمرارة تكشف خطتها :

    - لا بالطبع .. ولكن ما يسوؤني هو أنك تدعين الذهاب لأهلك .. في حين أنك تذهبين إلى أماكن أخرى لا يعلمها إلا الله .

    صرخت فيها حسناء : ماذا تقصدين ؟ وما هذا الذي تقولينه ؟

    قالت فريدة بحزن :

    - إنها الحقيقة يا حسناء .. الحقيقة ، فقد تحملنا أنا وأمي فظاظتك وقسوتك .. ولم نشأ أن نخبر حسن بما تفعلينه معنا حتى لا نحزنه .. أما أن تقفين في الشرفة لساعات طويلة تتبادلين الإشارات مع ذلك الشاب الذي ولا شك أنه يقف بعربته أمام دارنا وينتظرك .. وكذلك تتحدثين إليه بالهاتف طوال الليل .. فهذا أمر لا يجب السكوت عليه ..

    دخلت أم حسن تتابع النقاش بين كنتها وابنتها فصرخت حسناء : ما هذا .. هل تتجسسان عليَّ ؟

    أجابت أم حسن بهدوء :

    - لا يا ابنتي .. فليس من طباعنا التجسس .. لكن تصرفاتك أصبحت جليَّة وفاضحة ..

    اقتربت حسناء من حماتها وقالت بعناد :

    - أنا حرة .. أفعل ما أريد .. وليس لكما بي أي شأن .. وسأخرج مع من أريد .. وفي أي وقت ..

    تنهدت أم حسن وقالت باعتراض :

    - ولكن هذا لا يجوز يا حسناء .. إنك تخربين بيتك بنفسك .. !

    نظرت إليها كنتها شزراً وقالت بوقاحة : يا لك من عجوز شمطاء .. أنا أعرف لماذا تكرهينني .. لأنني أجمل من ابنتك التي لم تجد من يتزوجها حتى الآن ..

    هنا ظهر حسن وصاح ينهر زوجته قائلاً : حسناء !!

    ارتبكت المرأة فجأة وبدأت تدعي البكاء والحزن تلقائياً قائلة لزوجها :

    - هل رأيت .. هل رأيت يا حسن كيف أن أمك وأختك تسعان للتفريق بيننا .. باتهامي بالباطل ..

    قال بغيظ وحنق :

    - أجل .. رأيت وسمعت كل شيء .. رأيت الحقيقة البشعة التي كنت تسعين لإخفائها عني ..

    دنت من زوجها محاولة إغوائه بسحر جمالها :

    - لا تصدقهما يا عزيزي .. فهما يدبران مؤامرة ضدي وضدك ..

    صرخ فيها :

    - اخرسي .. اخرسي أيتها المرأة الفاسدة .. فهما أطهر من افتراءاتك وأكاذبيك ..

    ثم توعدها بغضب :

    - والآن أمامك ساعة من الوقت .. لتجمعي حاجياتك .. كي ألقي بك إلى بيت ذويك ..

    وأضاف ساخراً :

    - وسنرى أيتها الحسناء إذا ما كان ذلك العاشق الذي لوثت نفسك بمعرفته .. سنرى إن كان سيتزوج بكِ أم لا .. لأنه ليس هناك رجل عاقل – حتى وإن كان خبيثاً – في الدنيا .. يمكن أن يتزوج بامرأة كانت تخون زوجها ..

    وبعد مدة من الزمن عاد حسن إلى منزله بعد أن أوصل زوجته ورمى عليها بيمين الطلاق حيث تنهد وهو يقول لأمه نادماً :

    - لم أكن أعلم أنها على هذا النحو من السوء .. لقد استغلت حسنها لتضليلي ..

    وأضاف بحزن :

    - ليتني استمعت إليك يا أمي وانتصحت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم حين حذرنا نحن معشر الرجال من خضراء الدمن .

    قالت أمه تواسيه بحنان :

    - لا بأس يا بني .. المهم أن تكون قد تعلمت من هذه التجربة أن جمال المرأة الحقيقي يكمن في أخلاقها وصلاحها .. وليس بحسن وجهها وقامتها ..

    وأضافت أخته بمرح :

    - ثم أن الفتيات ذات الأخلاق العالية وذات الدين والصلاح متواجدات بكثرة والحمد لله .. المهم .. أن تحسن الاختيار في المرة القادمة .

    قال شارداً متبصراً للحقيقة :

    - نعم .. معك حق يا فريدة ، المهم أن أحسن الاختيار .. وأن لا أجعل الجمال والحُسن من الشروط الأساسية للزوجة الصالحة ..




    13 ـ إجازة .. !



    ينظر في عينيها .. ويقتطف ركام من الهم فيهما ، فينكمش داخل ضيق هائل .. يُلقي – على أثره – بكل ثقله إلى الوراء ليطلق زفرة بحجم الويلات .. !

    مرت عشر سنوات .. كأنها حلم .. أو هي طيف من أرض المستحيل ، عشر سنوات .. نسي خلالها الهموم الراكدة على أرصفة عمره .. نسي الآلام المتجذرة في طفولته .. في شبابه .. وحتى في هنيهات عجزه ..

    كانت " سلمى " في ليلة زفافهما ، مجرد طير يحوم في أجواء الفرح .. كانت الحلم الذي أغدق على عمره بفيض من الأمل ، ومنحه العزيمة ليتحدى الأهوال ..

    لكنها تتبدل وتتحول إلى مخلوق آخر ، اليوم تذبل .. وتذوي في صمت مرير بات يقتله كل يوم مائة مرة .. قالت له في حوارهما الأخير :

    " لقد منحتك كل شيء .. فلم أعد أملك لك شيئاً " ..

    يقفز من مكانه ويجوب الحجرة كمسافات بلا حدود ، بينما قابعة هي في مكانها لم تحرك ساكناً .. يسألها :

    - ماذا تريدين أن أفعل ؟! ..

    تحدق به ببرود ، وكأن سؤاله لا يعنيها ، ثم تعود إلى الثوب الذي تخيطه صامتة ، فيصرخ :

    - أجيبيني ..

    ترفع رأسها دون أن تنظر إليه ، وتبقى صامتة تحملق في الفراغ ..

    يكرر سؤاله :

    - ماذا تريدين .. ؟

    يشعر برغبة ملَّحة في البكاء لصمتها .. يريد أن يفعل أي شيء .. أن يصفعها .. أن يركل كل شيء أمامه ، لكنه يتماسك ويلوذ إلى حيرة يسحقه الذهول فيها إلى أشلاء ، يتساءل في سريرته .. ماذا يفعل ، وكيف يستجلي أحزانها ، فجأة يأتيه قرارها متعباً .. واهناً ، ليقطع حبل أفكاره :

    - أنا بحاجة ماسة إلى إجازة أستعيد بها حيويتي .. !

    يلتفت إليها مندهشاً ، فتردف :

    - مرت سنوات عديدة ، وأنا أمنحك أنت والأولاد كل جهدي ووقتي .. سنوات أفقدتني نفسي .. وشخصيتي .. فمن حقي أن تمنحني إجازة قصيرة .. !

    يطلق ضحكة مدوية .. لا يصدق ما يسمع ، فيسألها بمرارة :

    - هل مللتني يا سلمى ؟!

    تجيبه وهي تنهض بارتباك :

    - لا .. ولكن نظام الحياة على وتيرة واحدة ، وكذلك غيابك عنّا طيلة اليوم في عملك ، يجعلني أحياناً أفقد صوابي .. !

    يقاطعها باندفاع :

    - لكنه عملي .. إنه من أجلك .. وأجل الصغار !

    تتابع .. كأنها لم تسمعه :

    - تذكر أنه لا صديقات لدي .. ولست من النوع الذي يحبذ العلاقات الاجتماعية ..

    يقاطعها من جديد :

    - أعلم ذلك ..

    - ومنذ تزوجنا لم نسافر ولو لمرة واحدة .. حتى أهلي في الجنوب ، لم أقم بزيارتهم منذ سنوات عديدة ..

    تلتقط أنفاسها .. ثم تلتفت إليه لتسأله باستعطاف :

    - ألا تريدني بعد ذلك أن أشعر بالاختناق ؟!

    - ولكن الأولاد ..

    - ماذا بهم ؟

    - سيكونون معك بالطبع .. !

    تجيب بحزم :

    - بل سأرحل وحدي ..

    - ومن سيرعاهم في غيابك .. ؟!

    - لقد تحدثت مع والدتك بالأمر .. وأبدت استعداداً كاملاً لرعاية الأطفال ..

    لم يقتنع :

    - لا أحد يعتني بأطفالك مثلك ..

    - أدرك هذا .. ولكنها مجرد فترة قصيرة سأزور بها أهلي .. وألوذ إلى نفسي كي أجددها ..

    يتنهد ويضرب على ساقه بحنق :

    - إذن .. لقد رتبت كل شيء ..

    - ولم يتبقَ سوى موافقتك ..

    يحاول أن يتأقلم مع قرارها .. فيقول بتشكك :

    - وهل تضمنين النتائج ؟

    - الأيام شواهد .. وستلاحظ الفرق عندما أعود ..

    ينهض ويقترب منها ، ثم يهمس بحنان :

    - وأنا .. ألم تفكري بي ؟

    تقول له باسمة :

    - إنها إجازة قصيرة .. وسأعود إليك مرة أخرى ..

    يتردد وهو يستوعب قرارها .. لكنه يقول باستسلام :

    - سأخوض معك غمار هذه التجربة حتى النهاية ..

    ثم رويداً .. رويداً تنبسط أساريره .. ويقول بسعادة :

    - من أجلك فقط .. ومن أجل سعادة هذا البيت ، سأبدأ بإجراءات السفر منذ الآن !

    ويتركها وهي تتنهد بارتياح ..




    14 ـ عودي إلى نفسك .. !



    لم يشأ أن يستسلم لرعشة عصفت بقلبه ، ولا إلى ذلك الشتات الذي يهيمن عليه للحظة .. شتات مبعثه مخلوق تجسد فجأة لعينيه المبحلقتين .. مخلوق إما أن يكون قد هبط من الفضاء أو أن الأرض انشقت عنه ..

    شعر بأن أنفاسه تتجمد ، وأن خلاياه تنبض في رأسه وأنه يسمع خفقاتها في أذنيه .. وأعصابه .. وحتى دمائه ، وقبل أن يأتي بأي حركة ، حدق للمرة الثانية في المرأة التي وقفت أمامه كالكابوس ، وقالت له بدلال مصطنع :

    - أهلا يا عزيزي ، ما بك تقف هكذا .. هيا اقترب .. تفضل ..

    تأمل الألوان الصارخة والمضحكة على وجهها ، ونظر إلى شعرها القصير المجعد وإلى ثوبها الأحمر اللامع .. صاح مشدوها :

    - أهذه أنت .. أنت يا " أمينة " .. ماذا فعلت بنفسك يا امرأة .. ؟

    راحت تتسكع بدلال على أرض الحجرة التي كانت تئن من خطواتها الثقيلة ، كانت تستعرض ملابسها الضيقة حتى شبهت إليه وكأنها كائن لا ينتمي إلى عالم البشر ، خصوصا وهي تمضغ " العلك " بطريقة مستفزة ، قالت تدعي النعومة والرقة :

    - كما ترى يا عزيزي .. لقد غيرت من شكلي تماماً ..

    جاء اعتراضه على تصرفاتها بقول ساخط :

    - ولكنك تعرفين تماماً بأنني رجل تقليدي .. ولا أحب الأصباغ أو مساحيق التجميل ..

    تجاهلت هي ملاحظته ، ومالت نحوه بعرض مسرحي تهمس :

    - حتى لا تطير إلى غيري .. يا طيري ! .........

    ضرب كفاً بكف يحوقل ويستغفر الله :

    - أبعد هذه السنوات .. أبعد خمس وعشرين عاماً تخافين أن أذهب لغيرك ؟! ..

    تملّكته رغبة عارمة ، كادت أن تدفعه لأن يقهقه طويلاً ، ماذا لو قام بتقطيع شعرها الأشقر هذا .. ومسح وجهها الملطخ بأرطال من الألوان .. ماذا لو صفعها لتعود إلى صوابها ؟! ..

    أنعشته الفكرة .. فتأمل قوامها الغليظ وقال :

    - ثم من يقدر على التخلص منك .. أيتها .. العصفورة !!

    لم تفهم مغزى سخريته ، بل اعتبرتها مديحاً وغزلاً .. فقالت وهي تقلّد عارضات الأزياء بقفزاتها المجنونة :

    - إنها مجرد احتياطات أمنية ....

    جلس على المقعد يزفر بحدة ، ما الذي يمكن أن يردع هذه المرأة ، إنها لا تكف أبداً عن تقليد الأخريات ، ولا تفهم أبداً أن الحياة ليست مجرد طعام وشراب .. واجتماعات نسائية مدمرة ، ثم متى ستكف عن إرخاء أذنيها لكل ما يقال حولها ، سقط في ذهنه سؤال مباغت .. فأطلقه على مسامعها قائلاً :

    - ومن هي العبقرية هذه المرة .. التي أوحت إليك بأفكارها الغريبة .. ؟

    أجابته ترفع يدها بادعاء ، بينما هي تدور حوله وتلهب رأسه بصوت كعبها العالي :

    - إنها صديقتي هند ، لقد نصحتني بضرورة تغيير لون شعري وتسريحته ، كما أنها علمتني أصول المشي والحديث والاتكيت ، وغداً ستصحبني إن شاء الله إلى أرقى المحلات العالمية في المدينة لشراء أحدث الملابس في الموضة العصرية ..

    وضع يده على رأسه وهتف :

    - " يا خراب بيتك " يا محمد .. لقد جُنت المرأة ..

    ولكن لا .. لا يمكن أن يسكت عن هذا الوضع أبداً ، ولن يدعها تتمادى أكثر من ذلك حتى لا تتسبب بكارثة ، اقترب منها يحاول إقناعها بهدوء :

    - يا امرأ ة .. يا امرأة إن ما تفعلينه لا يُقره عاقل أبداً ، لقد تجاوزتِ الأربعون بكثير .. فلا تهيني ذاتك أكثر من هذا .

    غضبت من صرامته .. فعارضته بشدة :

    - وماذا يعني ذلك ، فأنا ما زلت في مقتبل العمر .. ثم إنني أحاول أن أتغير من أجلك ..

    صرخ بحدة لأول مرة :

    - لا .. أنت لستِ صغيرة كما تتوهمين ، كما أنك لا تتغيرين من أجلي .. بل أنت تنقادين للأخريات ، انظري إلى نفسك ، لقد جعلتِ منها ألعوبة في أيديهن وأضحوكة لهن ..

    صمت ليلتقط أنفاسه ، ثم قال بحدة أقل :

    - إنك سيدة رزينة .. فلا سنك ولا قوامك يساعدان على تحقيق مآربهن ، وأولادك .. هل نسيت أولادك .. هل تحبين أن يشاهدونك الآن وأنت أقرب ما تكوني من المهرجين ؟

    همست مأخوذة بحديثه ولكنها عاتبة :

    - المهرجون .. هل هكذا تراني الآن يا محمد ؟!!

    أشفق عليها ، فقال بمودة :

    - عودي إلى نفسك يا عزيزتي ، عودي إلى " أمينة " الطيبة العاقلة ، فهي أجمل عندي من كل نساء العالم !. وتذكري جيداً أن جمال الروح والأخلاق أهم من جمال الجسد .. وأنه ليس كل ما يبتدعه سوانا يمكن أن يناسبنا ..

    زلزلتها كلماته ، فأرخت ذراعيها .. وتسربت باستحياء إلى حجرتها لتخلع عنها ملابس المهرجين .. وتمسح مساحيقهم المضحكة ..





    15 ـ حسبي الله ونعم الوكيل



    كاد أن يقتحم جدالهما آذان المارة المبعثرة في الطريق ، قالت تستنكر ما هو عازم عليه :

    - هل جننت يا رجل .. أتريد أن تلقي بأبيك إلى الشارع ؟

    أجابها يتوارى خلف نبرة ارتباك :

    - لا .. بالطبع لا .. لن يصل الأمر إلى هذه الدرجة ، لأننا سنأتي به ليعيش هنا معنا ، وسيكون بإمكاننا جميعاً رعايته وخدمته.

    قالت تذكره بأمر قد غفله أو تناساه :

    - ولكنك تعلم جيداً أن والدك لا يحبذ ذلك ، وكنت قد عرضت عليه الأمر مرات عديدة ، حيث كان يرفض بشدة ويقول بأنه يفضل أن يعيش باقي عمره مع ذكرياته العزيزة مع أمك في ذلك البيت القديم ..

    صاح باعتراض متعللاً بإصراره :

    - إذن هل يرضيك هذا الشتات الذي نعيشه كل يوم حيث نذهب لزيارته .. ونأخذ له الطعام ، ثم تقومين أنت بخدمته وتنظيف ملابسه ومكانه !!؟ ..

    قالت تكشف نواياه :

    - على كل أنا لم أشكو من ذلك أبداً ، بل إنني سعيدة بما أفعله لأنني أطلب الأجر من الله .. أما أنت ..

    لم تستطع اتهامه ، فلطمها بنظرة حارة يستنطقها قال :

    - أنا ماذا .. ؟

    قالت بجرأة تواجهه بالحقيقة :

    - أنت تريد أن تسبب التعاسة لأبيك .. وتبيع المنزل الذي أصبح كل حياته ..

    لم يتحمل هذه المصارحة التي دفعته لأن يبرر مأربه بعناد قائلاً :

    - إنه حقي .. هذا البيت إرثي من أمي يرحمها الله ، ويحق لي أن أبيعه وأتصرف به كما يحلو لي .. لأستثمر أمواله في مشروع يؤمن المستقبل لي ولك وللأولاد ..

    صاحت باعتراض :

    - أنا لا أريد مستقبلاً مؤسساً على سخط والدك وتعاسته يا محمود ..

    ما زال الإصرار يغويه .. إلى حد أنه لم يكترث بكلامها .. بل إنه سكب على انتباهتها بجملة عنيدة :

    - ولكني مصمم على ما عزمت .. ولن يثنيني شيء عن ذلك .. وليكن ما يكون ..

    سكنها اليأس لقوله ، فقالت تنبهه قبل أن يخرج :

    - أحب أن أوجه لك كلمة أخيرة قبل أن تخرج يا محمود .. احذر من غضب أبيك .. احذر من غضب أبيك ..

    جملتها هزته من الداخل ، ومع ذلك قال متذمراً يشير بيده أثناء خروجه من البيت :

    - يوه .. هكذا أنت دائماً .. لا تكفين عن مضايقتي أبداً .. أبداً ..

    بعد أسبوعين .. وقع المحظور ، وحدث ما كانت هي تخشاه ، فقد أرغم محمود والده على ترك البيت وقام ببيعه ، فلم يحتمل الرجل الكبير عقوق ولده ، حيث نقل إلى المستشفى وهو في حالة إعياء شديد ، وعندما قامت " هند " بزيارته ، توسلت إليه وهي تبكي شفقة عليه ، وخوفاً من أن يصيبها غضب من الله ، قالت ترجوه :

    - عماه .. لا تغضب يا عماه .. أرجوك لا تغضب ..

    فكان يتمتم بما جعلها تتوجس خيفة :

    - حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل ..

    وبعد يومين .. ارتفع رنين الهاتف في منزلها ، كانت تتهيأ للخروج كما هي عادتها كل يوم لزيارة والد زوجها عندما توقفت لترفع السماعة حيث جاءها المشؤوم ، أخبرها المتحدث أن زوجها نقل إلى المستشفى بسبب حادث أليم تعرض له على الطريق ، فأسرعت تطمئن على زوجها ، وفي غرفة العناية راعها مرقده ، كان عبارة عن كتلة بيضاء من الأربطة والجبس .. حتى رأسه كان لا يظهر منه سوى جزء يسير ، اقتربت منه تهزه برفق وتناديه :

    - محمود .. محمود ..

    شرع عيناه ينظر إليها .. قال بإعياء وحزن :

    - هل رأيت ما حدث يا هند .. لقد ضاع كل شيء ، المال .. والسيارة الجديدة .. كل شيء ..

    قالت بدهشة :

    - ضاع المال كيف ؟

    قال يتوكأ على وعيه الشاحب بتأني :

    - الرجل الذي كنت أزمع مشاركته في المشروع .. سرق المال وهرب ، وحين ذهبت أبحث عنه في كل مكان .. كنت أقود العربة بسرعة جنونية .. حتى وصلت كما ترين إلى هذا الحال ..

    قالت توبخه بينما الحسرة تعتمر قلبها :

    - لقد حذرتك يا محمود .. حذرتك من غضب أبيك التعيس الذي يرقد الآن في المستشفى في حالة يُرثى لها ..

    قال يندم يبكي :

    - نعم .. أنا السبب .. في كل ما حدث لي ولأبي ، ولكني أعدك يا عزيزتي بأن أصلح الأمور قريباً إن شاء الله ، سأبذل كل ما بوسعي لأجمع مدخراتي حتى أعيد البيت لأبي .. بل وسنذهب للعيش معه هناك إذا تطلب الأمر ..

    قالت بحزن :

    - نعم .. الأفضل أن تسرع بذلك .. حتى ينجلي عنا غضب المولى سبحانه ...

    تمتم وهو يغوص في غفوة كانت تشده إلى متاهات الراحة :

    - قريباً .. قريباً .. إن شاء الله ..





    16 ـ نحن .. بحاجة إليكِ



    اعترته قشعريرة مباغتة زلزلت جسده الراقد في حضن الفراش ، كان يشرع أهدابه ليتملص من حلمه المزعج .. بينما أنفاسه تتلاحق بلا توقف ، ومن كوب الماء بجواره تجرع رشفات قليلة يعين بها انتباهته على الهدوء ، تمتم يمسح عرقه بشرود :

    - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله .. اللهم اجعله خيراً ..

    جاءه صوت زوجته من الناحية الأخرى وكأنه آت من مكان سحيق ، سألته بقلق :

    - عبد الله .. .. ما بكِ يا عبد الله .. ؟

    قفز من جوارها دون أن يجيبها ، وبلا إدراك منه توجه على الفور إلى حجرة طفله المغلقة ، حيث أشعل النور وجلس على حافة السرير يسند رأسه الدائخ على راحتيه المرتجفتين ، تنبه إلى يد زوجته بعد لحظات تُمسَّد رأسه ، أخيراًسمع صوتها بوضوح .. قالت له بحنان :

    - ماذا هنالك يا عزيزي .. ماذا حدث .. ؟!

    أجابها .. وعبرة تخنق صوته الحزين :

    - لقد رأيته يا هيفاء ، رأيت " وليد " مرة أخرى ، كان يناديني من شاطئ بعيد .. كان يناديني وهو يبكي ..

    جلست إلى جواره تتنهد :

    - ألن ننتهي أبدا من هذا الحلم .. لقد مرت أشهر عديدة على رحيله ، وآن الأوان لك لأن تتقبل الواقع والحقيقة المرة ..

    صمتت للحظة ثم أردفت بصوت باك :

    - إن ابنك مات .. مات يا عبد الله .. !

    صرخ بشدة يسكتها :

    - لا .. وليد لم يمت ، وليد ما زال هنا .. يسكن في صدري ..

    هزتها نبراته المغرقة بالدموع ، فاستنجدته قائلة :

    - كفى يا عزيزي .. كفاك تعذيبا لنفسك ولي ، إنها مشيئة الله ، فلا تكلف نفسك أكثر من طاقتها .. يجب أن تنسى ما حدث ..

    - شهق شهقة خلع بها قلبها ، قال بهلع :

    - وكيف أنسى .. كيف أنسى أنني كنت السبب في موت ابني الوحيد .. ابني الذي يبلغ ثلاث سنوات فقط ، في ذلك اليوم المشؤوم كان نائما مطمئنا في سريره ، وأنا الذي أيقظته من نومه وأرغمته على الذهاب معي إلى السوق .. لم أكن أعلم بأننا سنتعرض إلى حادث مروع في الطريق .. لم أكن أدرك أبدا أنني كنت آخذه بيدي إلى الموت ..

    مثل عملاق نائم ، استيقظ حزنها .. قالت تجاريه البكاء :

    - ولكن .. حتى أنت تعرضت للأذى يا عبد الله ، وجلست طريح الفراش في المستشفى لأكثر من شهرين ..

    قال يضرب بكفيه على ساقيه بجنون :

    - ليتني مت .. وبقي هو ..

    صاحت تنبهه من غفلته :

    - استغفر الله يا عبد الله .. إنك بهذا تعترض على مشيئته سبحانه .

    عادت إليه بصيرته .. فتضرع إلى السماء نادما : استغفر الله .. أستغفر الله ...

    اقتربت منه تمسح دموعه وتناجيه بحديث تمنت أن بسعده :

    - ثم إننا بحاجة إليك الآن ، فمن سيرعانا ويهتم بنا سواك إن بقيت على هذه الحالة ؟

    التفت إليها بذهول متسائلا :

    - أنتم .. ماذا تقصدين .. أنتم ؟!!

    وضعت راحتها على بطنها وقالت بدلال :

    - أنا .. ووليدك القادم ..

    منذ أشهر طويلة لم يذق للفرح طعما .. ها هي المعجزة تتحقق ، قال له الطبيب قبل مدة أن هيفاء لن تستطيع الحمل قبل سنوات عديدة .. يا لرحمة الله وعنايته ، يا لكرمه الذي سيعوضه عن ابنه الفقيد ، قال بسعادة غير مصدق :

    - هل .. هل أنت متأكدة يا عزيزتي ؟

    قالت ترمق وجهه المتهلل :

    - أجل يا زوجي الحبيب ، فبعد سبعة أشهر ستصبح أبا للمرة الثانية إن شاء الله ..

    هذا الخبر ، جعل عبد الله يحيا على أمل جديد .. جعله ينظر بإشراقة وفأل ، لذلك .. لم يعد يباغته الحلم المزعج مرة أخرى ..




    17 ـ أين المفر ؟! ..



    قرية هادئة ما صنعته ، جنة – انبعثت ملامحها – من أعماق فردوس .. كان يتجذر " شموخاً " على أرض الأحلام !!

    مناخ ريفي هي – طفولته ، ألقاً في ذاكرته .. أو وهجاً .. كان يتبعثر في خلاياه .. أو يتمدد في جوفه حتى النخاع ..

    كانت القرية تعني له – من منطلق الانتماء – ميلاد مترامي ، لا يموت أبداً .. على شواطئ الحياة ، كانت نبعاً .. اغترف من صفائه – بقاءً – ثم تركه " هجراً " .. ليذوي في آفاق التجربة .. !!

    لذلك هو يشعر بالتيه .. والتشرد ..

    لذلك برح وجه " مريم " الجميل ، مجرد " قناع " بشع من أقنعة الحضارة .. التي حاصرته – في شحوب انبهاره – بأكوام من الأسئلة المستهجنة خنوعه .. !

    وأصبح الوجود – في ناظريه – لا يساوي .. زفرة حنين يطلقها – حريقاً – في وحدته .. إلى قريته وأيامه الخالية .. إلى تضاريس أصالته المتوارية في سراديب الأزمان ، ولكن .. ألم تكن المدينة هي طموحه .. ومريم حُلمه !؟ ..

    ألم يتطلع إليها – يوماً – على أنها .. مخلوق ساحر خلق في عالم آخر .. جميل .. !

    عندما تقدم لخطبتها ، كان يخالها كالأطفال .. عين بريئة ترمقه باستحياء ، ثم تفر خجلا إلى حجرتها ..

    لم يكن يدرك أبدا .. أن البراءة يمكن أن تمسخ إلى سلوكيات واهية .. أو تتحول إلى مجموعة هائلة من المساحيق الملونة ، التي تسقطها أول حفنة من المياه ..

    لم يكن يعي حجم المغامرة التي أقدم عليها ، إلا حين خطا أولى خطواته نحو المجهول ..

    ها هي مريم تتحول إلى إعصار هائج ، يأكل الأخضر واليابس من عمره ..

    ها هي تزمجر في محياه كلما أطل عليها من عالمه المزدحم ، لتقول له بخيلاء :

    - ستبقى مجرد قروي ، " رجعي " .. لا يلم بأبجديات التمدن .. !

    أو قد تصرخ فيه بلا مبالاة :

    - لا تتوقع مني أبدا بأن ألغي بروتوكولات الحضارة ، وأهجر هذه الرفاهية .. لأمضي معك إلى قريتك البدائية .. انسي هذا الأمر بتاتا ... !

    يتنهد ..

    قتلته " مريم " .. ونثرته أشلاء فوق طرقات المدينة !

    تحولت – فجأة – إلى تمثال " جامد " ، كان يزين مساحات المنزل الذي أغدق عليه – بكل ذوبان عمره – أموالا .. وأموالا – لهث وراءها طويلا ، ليجمعها من كل صوب .. حتى يرضيها ..

    تحولت إلى امرأة باهتة .. هزيلة ، تماما مثل قناديل " المدينة " ..

    لم ترحمه أبدا .. ولم تمنحه لحظة هدوء يمكن أن يبعثرها .. في صخب أعماقه ..

    وكل ما كانت تجيده هو التبرج .. والثرثرة .. والخواء ، وحين تستقبله كل مساء كانت تسكب على أذنيه ، بأنغام متناقضة لإيقاعات يومها العاصف والمغرق بترهات حمقاء .. فتقول له بقرف :

    - لقد كادوا أولادك اليوم أن يفقدوني صوابي ..

    وتضيف وهي تكتف ذراعيها بغطرسة :

    - وتقول جارتي " أم أحمد " بأن لون سجادة الصالون ، لا يتناسب مع ستائر حجرة الطعام !

    ثم تزفر وهي تتناول " صينية الشاي " من الخادمة :

    - هل يرضيك بأن يقال أنني زوجة لرجل ريفي .. لا يفقه شيئا من أمور الديكور ؟!

    وأخيرا .. قد تنهي كلماتها القاتلة ، بينما هي تغادر المنزل – برفقة السائق – بإصدار أمر جديد :

    - لا تنسى السوار الماسي الذي أوصيتك به .. فغدا هو موعد زواج صديقتي " فوفو " ..

    آه ه ..

    يتأوه بحسرة اقتلعها من صحوة أمل هيمنت على حواسه ..

    كم يشتاق إلى عبير " الأوحال " في دروب قريته البعيدة ..

    كم يحن إلى وجه أمه " ورائحة العرق في يديها .. ووشاحها .. وكم يرنو إلى الفجر الريفي ، الذي طالما كسى جبينه – بقطرات لؤلؤية من ندى الصباح المنعش ..

    قالت له أمه :

    " لا تذهب يا بني .. إن المدينة كالبحر الهائج .. لن تقدر على مقاومة أمواجه .. ".

    تراوده – بغتة – أفكار شاحبة بالعودة .. لكنه سرعان ما يجفل ويهمس :

    - أين المفر .. !

    فهؤلاء القوم .. أصبحوا قيدا ثقيلا .. أغلالا قاسية تشده إلى القاع .. برحوا – في غمرة غربته – زنزانته التي لا يقدر على التحرر منها ! ..

    زفر .. وفكر .. ثم تساءل ..

    " هل يعود وحيدا " ؟!!

    تذكر بأن هذه الأمنية أيضا .. منبوذة في قاموس التنفيذ ! فالأفواه والألسنة الحانقة ، سيطلقون في كل صوب بشرر الغيبة والسخرية .. سيقولون : القروي الأحمق .. الذي هجر أولاده وزوجته من أجل بدائيته ..

    القروي الذي .. غدر .. وخدع ..

    فأين المفر ! .. ؟!




    18 ـ لن أتخلى عنكَ .. أبداً



    لم يعد هناك ما تتمسك به لتبقى ضمن دائرة أسرتها التي شمخت عالياً بأفرادها ؛ لا حياتها الكئيبة .. ولا أطفالها المذعورين .. ولا حتى أحلامها التي تلونت بالسوداوية ورماد الحزن ، وإذا كان زوجها قد انزلق إلى متاهات الفتن .. واعتمرته وساوس إبليس ؛ فيجب أن تنجو بنفسها وأولادها قبل أن يجرفهم معه إلى هاوية الهلاك ..

    قبل أسابيع جاءها قرابة الفجر يتمايل طرباً بينما روائح خبيثة تفوح من ثغره الذي يتهوس بالهذيان ، وعندما واجهته بصنيعه البشع راح يكيل عليها بالضرب والشتائم .. متوعداً إياها بحياة بائسة ..

    ومنذ أيام فقط ، وقف أمامها يطالبها بالمستحيل .. قال بقسوة :

    - عليك أن تخلعي عنك حجابك .. وإلاّ مزقته ومزقتك معه ..

    صرخت حينها بشدة ترفض الاستسلام له :

    - هل تريدني أن أخلع حجابي ؟ .. أتريدني أن أظهر عارية أمام الناس ، لا .. لن أفعل حتى وإن قتلتني .. !

    قال بإصرار يمارس عليها ضغوطه :

    - بل ستفعلين ، فأنا الآن رجل عصري متحضر ، وحجابك هذا ليس إلا رمزا للبدائية والتخلف .. وسوف يسيء لي في علاقاتي الاجتماعية ..

    لقد فاض الكيل بها ، ولم يعد للصبر من داع في هذه الأجواء الملوثة ، لهذا قررت أن تترك مملكتها المتداعية .. هشيم الجلد المنحرف بأهواء زوجها وعبثه عن جادة الحق ، يا إلهي كم تغير سالم .. الزوج العطوف الودود ..

    الرجل الفاضل الذي كان يذكرها ويبصرها كلما غفلت أو أخطأت ، أجل .. تبدل سالم كليا منذ أن تعرف على " هاني " ورفاقه .. عصبة ضالة .. وشرذمة منحرفة تلطخت مبادئه بقناعاتهم الهدامة .. تنهدت تفيق من ذكرياتها ، وهي تعد حقيبتها هامسة :

    - إنا لله وإنا إليه راجعون ..

    ثم هتفت تنظر إلى ساعتها بقلق :

    - ولكن لماذا تأخر أخي راشد .. لقد وعد أن يأتي ويصحبني إلى بيت أبي .

    فجأة سمعت حراكا بالجوار .. التفتت فإذا بسالم يقف إلى جانب الباب في حالة مزرية ، كان واهنا وحزينا .. وقطرات من العرق تبلل جبينه المتعب ، كان يبدو مسالما على غير عادته ، ومع ذلك انتفضت حين أشار إلى حقيبتها متسائلا .

    - ما هذا .. ماذا تفعلين .. ؟

    قالت بارتباك وفزع :

    - إني راحلة .. سأذهب إلى منزل أبي ..

    توقعت منه أن يثور ويغضب .. أن ينهال عليها باللكمات والكلمات النابية كعهده مؤخرا ، ولكنه بدلا من ذلك هز رأسه بأسى وانسحب إلى حجرته يبحث عن عزلة موائمة ، تعجبت هي لصمته .. لسكوته عن رحيلها ، فتتبعته لتقف على حقيقة الأمر ، فراعها مشهده ، حيث كان يجلس على حافة السرير ويبكي بمرارة .. يبكي وكأن المصائب قد حطت على رأسه دفعة واحدة ، آلمها مرآه ، فاقتربت منه بتردد .. ثم سألته أخيرا :

    - سالم .. لماذا تبكي يا سالم .. ماذا حدث .. وأين كنت ؟

    قال بصوت يخنقه البكاء :

    - آه .. لو تعلمين ماذا حدث .. وأين كنت ، لقد كنت في المسجد .. في بيت الله ..

    تراجعت خطوة للوراء بذهول :

    - ماذا ! .. في المسجد ؟ .. لا أصدق .. كيف حدث هذا ؟

    أردف محاولا أن بشرح لها الأمر باختصار :

    - لقد تعرض صديقي هاني اليوم لحادث مروع على الطريق قضى نحبه فيه ، وكان قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي يبكي وهو يقول لي : " لا أدري كيف سأقابل الله يا سالم ، وماذا سأقول له سبحانه إن سألني عن معاصيي وذنوبي ".

    لم أدر إلا والأرض تميد بي .. والنهار أصبح ظلاما في عيني ، فسرت هائما على وجهي في الطرقات وأنا شبه مصدوم فقط أفكر بكلام هاني وأبكي ، حتى هدتني خطاي إلى أحد المساجد حيث صليت والتقيت بشيخ فاضل .. آلمه بكائي ، فسألني عن سر حزني – وألح علي – حتى أخبرته بكل شيء ، ولم يدعني الشيخ الكريم أمضي حتى حدثني بحديث عذب زلزل كياني وأشاع السكينة في قلبي بل وأزال الغشاوة عن عيني ، لقد كنت ضالا وعاصيا .. وأرجو أن يغفر الله لي .

    ثم التفت إليها برجاء :

    - وأنت أيضا يا عزيزتي .. أرجوك أن تسامحيني وتبقي معي .. فأنا بأمس الحاجة إلى وجودك بجانبي الآن ..

    قالت له بمودة تخفف عنه :

    - لا تقلق يا عزيزي لن أتخلى عنك أبدا .. طالما أنك عدت إلى رشدك ..

    سعادة خفية كانت تتسرب إلى أعماقها ، فتمتمت بتضرع : الحمد لله .. الحمد لله ...





    19 ـ قبل أن يقسو قلبه عليها ..



    ما زال غاضباً .. يظهر هذا جلياً على وجهه المكفَهَّر ، وقَسماتِه العابسة ، لاسيما حين تقدم إلى وسط القاعة يلقي بمفاتيحه بعنف على الأريكة وهو يقول بجفاء :

    - السلام عليكم ..

    ما كادت هي أن تسمع تحيته ، حتى بادرته بترحيب ومودة ..

    - أهلاً بسيد الرجال .. أهلاً بحبيبي ونور عيني .. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ...

    لابد وأن تكسر حدة غضبه وبأي طريقة ، هذا ما فكرت به وهي تسأله بدلال :

    - ألا تريد أن تغير ملابسك يا عزيزي ، ريثما أجهز الطعام .. فقد طهوتُ لك اليوم طبقك المفضل ... !

    تمتم باقتضاب لا ينظر إليها :

    - حسناً .. ولكن أسرعي ، فأنا أتضور من الجوع .. !

    على المائدة .. وأثناء تناولهما للطعام ، حاولت هي أن تدللـه أكثر من العادة ، فكانت تُلقمه بين الحين والآخر بملعقة أرز أو بقطعة صغيرة من الدجاج ، رغم أنه كان يشيح برأسه عنها أحيانا .. رافضا محاولاتها ليشعرها بالذنب .. ولم يكتف بذلك .. بل إنه ما كاد أن بتذوق من الطبق الرئيسي حتى قال يحنق يثيرها :

    - ما هذا يا ست بدرية .. إن طعامك مالح .. !

    ماذا .. مالح ! .. حسنا .. إنه يتلكأ .. أجل ، فالطعام جيد .. بل إنه ممتاز ، ولكن عليها إما أن تصمت أو تجادله ، ففضلت مسايرته بعد أن ابتلعت تعليقه على مضض ، وقالت تطلق على مسامعه بجملة كانت غير مقتنعة بها :

    - نعم .. .. معك حق يا عزيزي ، يبدو أنني قد اكثرت من مقدار الملح على الطعام .. سأحضر لك القهوة ..

    أجاب يستفزها وهو ينهض عن المائدة يصطنع الغضب :

    - يفضل هذا .. قبل أن أفقد أعصابي ...

    دخلت إلى المطبخ تجر أذيال الخيبة لتعامله الفظ معها ، فكل مساعيها لمصالحته منذ يومين باءت بالفشل ، وعليها أن تسرع بردم الفجوة بينهما قبل أن تتسع وقبل أن يقسو قلبه عليها .. وبينما كانت تعد القهوة له ، تذكرت ما بدر منها وأشعل شرارة الخصام بينهما ، لم تر زوجها بمثل هذا الغضب من قبل .. كان ثائرا إلى حد أنها لاذت للصمت ولم تستطع مناقشته ...

    بدأت القصة عندما كا


    موقع قف وناظر |أفلام اون لاين منوعة|برنامج استضافة مفيدة|تحميل برامج|تحميل العاب|تحميل افلام أجنبية جديده|كل ماتتخيله ومالاتتخيله لدنيا الموقع العالمي قف وناظر www.abade.roo7.biz|اخبار نجوم الفن والمشاهير | بيع وشراء

    دلــوعة عمــان~~
    دلــوعة عمــان~~
    نجمة المنتدى
    نجمة المنتدى


    حكايات خلف الأبواب  Empty رد: حكايات خلف الأبواب

    مُساهمة من طرف دلــوعة عمــان~~ الإثنين 4 يوليو - 19:44

    حكايات خلف الأبواب  Iauuau10
    حكايات خلف الأبواب  Iauuau12
    حكايات خلف الأبواب  Iauuau11

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء 5 نوفمبر - 23:45