لا يستوي النهل لعاشق أو باحث في عبق التاريخ الكروي دون مرورٍ إلزاميّ على أقدم بطولة عالمية للمنتخبات مستمرة حتى يومنا هذا، فالـ "كوبا أميركا" أو بطولة أميركا الجنوبية عبرت العقود والمعوّقات منذ فجرها الأوّل عام 1916، وما زالت وإن على بعض من الفوضى التنظيمية، وها هي قبل نيّف من السنوات على مئوّيتها، تستعد لدورتها الـ43 في الأرجنتين.
لا ريب أن كوبا أميركا تأتي بين صفوة البطولات. الكثير يراها في المرتبة الثالثة تصنيفاً بعد كأس العالم وكأس أوروبا نسبة لمعايير فنية وتنظيمية مختلفة، أما البعض الآخر قد يميّزها أكثر لاعتبارات ترتبط بنكهة الكرة اللاتينية.
لكن مهما يكن من أمر، فمجرّد تردد أسماء البرازيل، البطلة العالمية خمس مرات، الأرجنتين المتوجة مرتين، وأوروغواي الفائزة مرتين بدورها، إلى جانب باراغواي وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وغيرها، من الدول ندرك أن وراء تلك المنتخبات حكايات يتطلّب سردها مجلّدات، إنما مرور خاطف قد يوضح لنا ماهيّة عرس القارة اللاتينية.
1916
الفجر الأوّل
تعود حكاية الأرجنتين مع كرة القدم إلى وقت مبكر من القرن التاسع عشر. حكاية بلورها الزمان مع ولادة الاتحاد الأرجنتيني للعبة عام 1893 ثم ترافق نضجها مع الاحتفال بذكرى مئوية نجاح "ثورة مايو" ضدّ المستعمر الإسباني فكانت ولادة أقدم بطولة قارية في صيف 1916 احتفاء بالاستقلال وثمرة التطوّر الكروي.
في بداياتها، أطلق على البطولة اسم "كومبيوناتو سودامريكانو دي سيلسيوني" Campeonato Sudamericano de" "Selecciones أو بطولة أميركا الجنوبية للمنتخبات. لم يكن هنالك من تصفيات بل دعوات من وزارة الخارجية وجهت لدول الجوار لمشاركة الأرجنتينيين احتفالاتهم بذكرى الاستقلال. لبّت دعوات الدورة الأولى دول أوروغواي، البرازيل وتشيلي حيث عشق الكرة منذ يومها يجري في عروق الشعوب. وكان الفجر الأوّل.
بين 2 تموز/يوليو 1916 و17 منه تبارت المنتخبات المشاركة في بوينس ايرس فيما بينها. الفائز حصد نقطتين والمتعادل نقطة ولاشيء للخاسر.
أوروغواي كشفت منذ اللقاء الأوّل عن ريادتها في تلك الحقبة الكروية من الزمن واستهلت المنافسات بسحقها تشيلي 4-0 في إستاد "خيمناسيا إي إسغريما" ثم توّجت باللقب لاحقاً أمام الأرجنتين بعد تعادلهما سلباً في اللقاء الأخير، محققة فوزين وتعادل مقابل فوز وتعادلين للمضيفة.
لقب هدّاف البطولة، آل أيضاً لأوروغواي عبر مهاجمها "ايزابيلينو غرادين" برصيد ثلاثة أهداف. وكان غرادين وقتها يحمل الرقم القياسي الأميركي الجنوبي في العدو السريع لمسافتي 200 و400م.
تمخضت الأفكار في هذه البطولة باتجاه التطوير، فاتفق مسؤولو الكرة في الدول المشاركة على اقتراح مدير كرة القدم في أوروغواي "هكتور ريفادافيا" بإنشاء منظمة ترعى البطولة وتعطيها صفة رسمية.
هكذا وُلد الـ"كونمبول" أو اتحاد أميركا الجنوبية لكرة القدم، يوم ذكرى إعلان استقلال الأرجنتين في التاسع من تموز/يوليو 1916. وهو أقدم اتحاد كرة قدم قاري.
1917
الكأس الأولى
بعد أن كانت الدورة الأولى شهدت تتويج الفائز بكأس من تقديم وزارة الخارجية الأرجنتينية، عمِل الـ"كونمبول" في النسخة الثانية التي نظمتها الأوروغواي بين 30 أيلول/سبتمبر و14 تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 1917 على تخصيص كأس خاصة بكِلفة ثلاثة آلاف فرنك سويسري.
لاقت البطولة نجاحاً جماهيرياً وتنظيمياً لافتاً ما اعتبر نجاحاً لاتحاد أميركا الجنوبية الذي قرر منح البرازيل شرف استضافة النسخة الثالثة.
خاضت أوروغواي البطولة بفريق شابه تغييرات جذرية مقارنة بذلك الذي خاض الدورة الأولى. فغاب الهداف ايزابيلينو غرادين فيما قاد المنتخب المهاجم الهداف انخل رومانو والموهوب هكتور سكاروني. واستطاع البلد المضيف التفوّق 1-0 في مباراة الحسم على الأرجنتين التي كان غادرها بعض اللاعبين لارتباطهم بأعمالهم في زمن لم يكن فيه من احتراف.
1919
أطول مباراة
كان من المفترض أن تنظّم البرازيل النسخة الثالثة عام 1918، إلا أن انتشار وباء الانفلونزا بشكل واسع آنذاك في ريو دي جانيرو، أدّى لإلغاء المسابقة وترحيلها للعام التالي.
استضاف إستاد "لارانييراس" الخاص بنادي فلوميننسي في ريو دي جانيرو والمشيّد عام 1905، البطولة بعد خضوعه لإصلاحات وتوسيع سعة الاستيعاب حتى 26 ألف مشاهدٍ.
أفضت المباريات عن تساوي منتخبي البرازيل وأوروغواي نقاطاً، فتم اللجوء لمباراة فاصلة لتحديد البطل كون فارق الأهداف كان غير معتمد حينها.
انتهى الوقت الأصلي للمباراة الفاصلة بالتعادل السلبي فتمَّ اللجوء للتمديد الذي كان أربعة أشواط إضافية كل منها 15 دقيقة. واستطاعت البرازيل بفضل نجمها وقتذاك ارتور فريدينريتش الملقب بالـ"نمر" في تسجيل هدف الفوز في الدقيقة 122، لتنهي بعد مباراة من 150 دقيقة سيطرة أوروغواي على المسابقة.
1920
عودة أوروغواي
بناء على مبدأ المداورة الذي انتهجه الـ"كونمبول" استضافت تشيلي النسخة الرابعة من كوبا أميركا أو بطولة أميركا الجنوبية كما اصطلح تسميتها آنذاك بين 11 أيلول/سبتمبر و3 تشرين الأوّل/أكتوبر 1920.
لم تستفد تشيلي من الاستضافة، لتتخلى عن المركز الرابع والأخير الذي أحرزته في مشاركاتها السابقة أعوام 1916 و1917 و1919، وأفضل ما فعلته انتزاعها التعادل من الأرجنتين 1-1 في مباراتها الثانية بعد أن خسرت الأولى أمام البرازيل 0-1.
هذا التعادل لم يخدم تشيلي لتحسين ترتيبها، إلا أنّه خدم أوروغواي لاستعادة اللقب من البرازيل بعد فوزها على تشيلي في المرحلة الأخيرة للتقدم الأرجنتين بـ5 نقاط مقابل 4 في الترتيب النهائي خصوصاً أن الفريقين تعادلا في الجولة الأولى.
وكانت أوروغواي بقيادة نجمها خوسيه ميغيل بينديبيني نجم بينارول الملقب بالـ"مايسترو"، سحقت البرازيل في الجولة الثانية 6-0.
لقب الهداف آل للاعبي أوروغواي خوسيه بيريز وانخل رومانو مع ثلاثة أهداف لكل منهما، علماً أن رومانو كان هداف النسخة الثانية عام 1917.
1921
صعود أرجنتيني
العام التالي انتقلت البطولة للأرجنتين فنظمتها بين 2 تشرين الأوّل /أكتوبر حتى 30 منه وشهدت حدثان أساسيّان: أوّلهما تتويج الأرجنتين للمرة الأولى وثانيهما مشاركة باراغواي كوجه جديد في البطولة بعدما اقتصرت الدورات الأربع السابقة على مشاركة دول البرازيل، أوروغواي والأرجنتين وتشيلي التي غابت عن البطولة الخامسة لمشاكل في منتخبها الوطني والاتحاد.
كانت تلك المرة الثانية التي تنظم الأرجنتين البطولة بعد عام 1916 حين حلت ثانية خلف أوروغواي.
الاستضافة الثانية عرفت أوّل تتويج للأرجنتين فباتت ثالث دولة تدوّن اسمها كبطلة لأميركا اللاتينية بعد البرازيل وأوروغواي.
1922
البرازيل مجدداً
وبغرض الاحتفال بذكرى مرور مئة عام على استقلالها، استضافت مدينة ري ودي جانيرو البرازيلية النسخة السادسة التي كانت مقررة أصلاً في تشيلي قبل أن يصار نقلها.
شهدت النسخة السادسة، التي أقيمت بين 17 أيلول/سبتمبر و22 تشرين الأوّل/أكتوبر، مشاركة خمسة منتخبات للمرة الأولى هي إضافة للبرازيل، باراغواي، أوروغواي، الأرجنتين وتشيلي.
وبعد منافسة قوية، نجحت البرازيل للمرة الثانية في رفع الكأس، بعد أولى على أرضها أيضاً العام 1919.
انتهى الدور الأوّل بتساوي منتخبات البرازيل، أوروغواي وباراغواي بالنقاط مع 5 لكل منها. منتخب أوروغواي انسحب اعتراضاً على التحكيم، فأقيمت مباراة فاصلة نهائية لتحديد البطل فازت فيها البرازيل على باراغواي 3-0.