عن المغيرة بن شعبة، قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وابو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل (يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله). فقال أبو جهل: يا محمد. هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء، أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا نعم ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي، والله لا أفعل - عن أبي إسحاق. قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما جالسان .. فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس. قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي؟ فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل. ف قال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبياً. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهمان فقال: (أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت، ولكنك حميت للأصل. وأما أنت يا ابا الحكم، فوالله لتضحكن قليلاً ولتبكين كثيراً) فقال: بئسما تعدني يابن أخي من نبوتك. وقول أبي جهل - لعنه الله - كما قال الله تعالى مخبراً عنه وعن إضرابه: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) (الفرقان: 41 - 42).
----------------------------------
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) (الإسراء 110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك)، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن: (ولا تخافت بها) عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وابتغ بين ذلك سبيلاً). وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم . لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً فأنزل الله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك) فيتفرقوا عنك (ولا تخافت بها) فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به (وابتغ بين ذلك سبيلاً).
----------------------------------
قالت قريش للرسول عليه السلام : أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباه (الزواج) فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فرغت؟) قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) (فصلت 1 - 3) إلى أن بلغ: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم ثم قال: لا، والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله، ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. وعنده: أنه لما قال: (فإن أعرضوا فقل أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أمسك عقبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة اصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه. فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم إني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (حم. تنزيل من الرحمن الرحيم) حتى بلغ (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتهم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
----------------------------------
عن ابن إسحاق حدثني الزهري، قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلساً ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق، أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبداً ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس بن شريق.
----------------------------------
عن عكرمة عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يؤثره عن غيره، فنزلت (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً) (المدثر 11 - 13).
----------------------------------
عن عكرمة عن ابن عباس. أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر المواسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضاً. فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأياً نقوم به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن؟ فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون؟ فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقال نقول شاعر؟ فقال: ما هو بشاعر، وقد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر؟ قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا بعقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: هذا ساحر فتقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء ودينه وبين المرء وزوجته وبين المرء وأخيه وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا المواسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، وأنزل الله في الوليد: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً) وفي أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين (فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون) (الحجر 92 - 93). وفي ذلك قال الله تعالى أخباراً عن جهلهم وقلة عقلهم: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فيأتنا بآية كما أرسل الأولون) (الأنبياء 5). فحاروا ماذا يقولون فيه، فكل شيء يقولونه باطل، لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ، قال الله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً) (الإسراء 48). عن جابر بن عبدالله، قال: اجتمع قريش يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فآتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبدالله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلي أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.
|