ميكانيكية الظّل
تكلم الرازي عن كروية الأرض كأول عربي مسلم ، وقد سبقه الإغريقي ارستاركوس . إلا أن القرآن الكريم قد أشار إلى الدّحى وهو شكل بيضاوي وليس كروي تماما . ولقد أشار الله تعالى إلى الظّل في كتابه الكريم في أكثر من آية وحملت فيها من المعاني اللفظية العلمية الشيء الكثير لكي نتفكر ونتدبر في عظمة هذه المعاني ونصل في نهايتها إلى بعض دلائل قدرة الله في هذا الكون العظيم .
جاء في كتب التفسير أن الظّل هو عتمة الفجر حتى طلوع الشمس ، أما الظّل بمعناه العام فهو يشمل الخيال الناتج عن الشخص أو الشاخص في اتجاه سقوط أشعة الشمس .
الآيتان (45 و46) من سورة الفرقان تبينان حقيقة دوران الأرض حول نفسها ، كما أن كواكب المجموعة الشمسية ليست فيها كواكب ساكنة تسكن في الظّل فهي تدور جميعها حول نفسها وحول الشمس مثل الأرض تماما . كما أن سنة عطارد أقصر من يومه ، أما عندما تكون حركة الكوكب حول نفسه بقدر سرعته حول الشمس فإنه لا يلامسه من الشمس من إشعاع سوى وجه واحد ........ ويختلف طول الظّل تبعا لزاوية سقوط الشمس ، فإذا كانت الشمس عمودية على رأس الشخص فإن الظّل يلبس الجسم ولا يظهر له أي ظل ويمكن رؤية ذلك بوضوح عند خط الاستواء في 21 آذار و22 أيلول إذ تكون الشمس عمودية على رأس الشخص فلا يظهر له أي ظل بل يقال في الاصطلاح العلمي أن الظّل قد لبس الشخص نفسه ويكون ذلك في وقت الظهيرة ، أما إذا تواجد الشخص على أي خط عرض آخر بعيد عن خط عرض الشمس فإن ظلّ الظهيرة يكون له قيمة ويطلق عليه اصطلاح أقصر ظل عن ذلك اليوم ، ويعتبر علميا الليل الذي نراه في نصف الكرة الأرضية ما هو إلا ظل وجه الأرض المقابل للشمس على نصف الأرض البعيد عن الشمس ، ولننتبه إلى ما جاء في سورة الفرقان في الآيتين 45 و46 إذ قال الله عز وجل :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) (45) (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) (46) .
ويدعونا كلام الله هذا أن نرى صنعه الذي أتقن كل شيء صنعه ، بينما الظّل الذي خلقه وخلق أسبابه ومده ، ولو شاء سبحانه لغير في أسبابه فجعله ساكنا لا يتحول ولا يزول كما يحدث في بعض الكواكب الشمسية ، فالكوكب عطارد أقرب الكواكب إلى الشمس حيث يقابلها بوجه واحد فقط إذ يكون النهار سرمديا أبديا وليله ليلا أبديا أي سرمديا ومن ثم يكون فيه الليل ثابتا وساكنا ، هذا ما جاء به العلم الحديث ليوضح لنا بعض نظريات الظّل . ويكون الظّل أنواعا فيوجد ظل الشجرة وهو أجمل أنواع الظّل ، فالشجرة بما فيها من فروع ورقية تعمل بمثابة مرشح لدرجة حرارة الشمس فيكون ظلّها ظليلا ، وقد أشار الله تعالى في سورة النساء الآية 57 إلى ذلك بقوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) .
أي ظلّا عميقا كثيرا غزيرا طيبا ، وقد أشار الحديث الشريف إلى ذلك : (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها – شجرة الخلد) . كما انه يوجد ظل السحب البيضاء التي تحجب أشعة الشمس من الوصول إلى سطح الأرض وتعمل السحب عمل المظلّة البيضاء مع الفارق فيما صنعه الإنسان بأنه ليس له صفة امتصاص الأشعة الشمسية ، بينما ما صنعه الله من الغمام والسحب البيضاء له خاصية امتصاص الأشعة الشمسية إذ لا يصل إلى الإنسان إلا ما يحتاجه من ضوء وحرارة هادئة ، وقد أشار الله تعالى إلى السحاب الأبيض في سورة البقرة الآية 57 بقوله : (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .
والآية 210 إذ قال جل وعلا : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) .
وكذلك في سورة الأعراف الآية 160 إذ قال الله تعالى : (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .
وسحب الصيف البيضاء حينما تأتي من الله عز وجل رحمة لبني البشر يجب أن نفكر فيم خلقها الله تعالى ؟ ، ليخفف عن البعض بظلال من الغمام بينما يترك الآخرين في سعير الحر اللافح القاتل ، والجميع يعرف أنه توجد ضربة شمس تقتل الإنسان والحيوان وتحرق الغابات وتهلك الزرع إذ تصل الحرارة فيها إلى ما يزيد على 50 درجة مئوية وتقابلها أيضا ضربة ظل الناتجة عن ظل المباني أو ظل أي جسم صناعيا وهو لا يغني ولا يحمي ، ومن ثم يموت بعض الأشخاص أيضا من ضربة الظّل الصناعي مثلها في ذلك مثل ضربة الشمس وإن كانت أقل قليلا في درجة حرارتها . أما السحابة البيضاء التي تعمل في ظلل من الغمام فإنها مثل سحابة الصيف المعروفة لا تمطر ولكنها تمتص جزءا من الأشعة الشمسية أثناء مرورها من خلالها فيكون الظّل الذي وضعه الخالق بنظرية علمية لتستفيد منه مخلوقات كوكب الأرض .
تمر علينا بعض آيات الله الكونية من أن ننتبه أنها تخضع إلى نظرية الظّل ، فمثلا خسوف القمر ما هو إلا سقوط ظل كوكب الأرض على القمر بطريقة علمية دقيقة إذ تحدث ظاهرة الخسوف القمري عندما تقع مراكز الشمس والأرض والقمر على خط مستقيم شبه الظّل للأرض والخسوف الكلي في منطقة الظّل الكامل للأرض . وقد إستدل العرب الأوائل على كروية كوكب الأرض من خلال ظاهرة الخسوف القمري حيث يقع الظّل على سطح القمر في صورة معينة لو كان للأرض أي شكل هندسي غير كروي لما حدث التقاطع على سطح القمر في شكل خط مستقيم . أما كسوف الشمس فهو أن يقع ظل القمر على كوكب الأرض ويكون ظهور ذلك بوضوح في حالة الكسوف الكلي للشمس إذ ينطبق قرص الشمس حاجبا أشعة الشمس من الوصول إلى كوكب الأرض ولكن في منطقة لا تزيد مساحتها على 200 ميل مربع إذ يقع ظل القمر على سطح الأرض ويحدث إعتام كامل في سماء المنطقة وتظهر كأنها ليل إذ ترى النجوم والكواكب لامعة بغض النظر عن أن هذا الوقت هو الظهيرة أو بعدها أو قبلها بثلاث ساعات فهذا بوقت الكسوف الكلي للشمس . وهكذا نرى أن ظل الأرض يحدث لنا خسوف القمر ، وجسم القمر يحدث ظلّا للقمر على كوكب الأرض والظاهرتان تحدثان كل عام ولكن لا ننتبه لآيات الله الكونية ، وجاءت إشارة في كتاب الله الكريم في سورة النحل الآية 81 إذ قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا) .
استخدم مقياس الظّل للدلالة على الوقت ، فنظرية المزولة الشمسية أساسها طول الظّل لعصا مثبتة في مركز قرص خشبي إذ يقسم طول النهار عند منتصفه أي وقت الظهيرة ليكون طول الظّل مدلول وقت معين ، وبديهيا فإن قياس المزولة للوقت هو قياس تقريبي ويختلف عند وجود الشمس في كل برج من أبراجها المعروفة ، وبصفة خاصة في برج الحمل حيث بداية الربيع ، ثم برج السرطان حيث بداية الصيف ، ثم برج الميزان حيث بداية الخريف ، ثم برج الجدي حيث بداية الشتاء ، ويكون كل ذلك محسوبا لنصف الكرة الشمالي فقط لتختلف هذه الفصول الأربعة في نصف الكرة الجنوبي ، كما أن حركة الظّل يمكن بها تحديد صلاة الظهيرة إذ يكون الظّل أقصر ما يكون عند ذلك اليوم ، وتحديد صلاة العصر بطول الظهيرة مضافا إليها الظّل الكامل المحسوب له ظل الظهيرة ، أما صلاة المغرب في اختفاء الظّلال تماما باختفاء قرص الشمس .
وليس في كل ظل نجد الراحة فهناك عذاب من الظّل أشار إليه الله سبحانه وتعالى في سورة المرسلات الآيتين 30 و31 إذ قال جل وعلا : (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) .
وأفاد المفسرون في ذلك أن ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو نفسه ولا يغني من اللهب فإن لهب النار إذا إرتفع وصعد معه دخان فيكون من شدته وقوته له ثلاث شعب ، وهكذا جاءت الآية الكريمة لتوضح لنا أن الدخان الناتج عن اللهب يعمل ظلالا ولكنها مملوءة بالسموم والحرور . نسأل الله عز وجل أن يرحمنا من عذاب يوم الظّلة وأن يظللنا بوشاح رحمته في يوم لا ظل إلا ظله ولنرفع أكف الضراعة ونبتهل إليك يا رحمن يا رحيم أن تطفي نار الحروب البشرية الحمقاء التي تأكل الطيب قبل الخبيث وأن ترفع راية الإسلام في كل مكان .
ويطول المقال بنا في هذا الموضوع المتعلق بالفلك فما أكثر آيات الله المسطورة المتطابقة مع آيات الله المنظورة ، وما أكثر الثوابت القرآنية الشاملة وما أعظم الهندسة القرآنية التي تحاكي الهندسة الكونية في الآفاق كما في الأنفس .
وإذا كان لابد من إشارة أخيرة فلا ننسى فضل العلماء المسلمين في مجال الفلك على العالم أجمع ، ولعل أبرز أعلامنا الأماجد في هذا الضرب من العلم هو البيروني بكتبه ومؤلفاته الشهيرة ، و(البلخي) العالم الفلكي المسلم الذي ذاع صيته ، وأدت كتاباته ومؤلفاته إلى اعتراف علماء الفلك المعاصرين ومن سبقهم من إيطاليين وإنكليز وغيرهم بإنجازاته فجعلوه من أبرز علماء الفلك العالميين الذين أثروا هذا العلم أيما إثراء فأطلقوا اسمه على أقسام من كلياتهم ومراكزهم البحثية الفلكية .