القَابِضُ الباسط جل جلاله (1)
عظم نورك ربنا فهديت فلك الحمد , وبسطت يدك فأعطيت فلك الحمد , وعظم حلمك فعفوت فلك الحمد , والصلاة والسلام على الرحمة المهداة وآله وصحبه , وبعد
فقد ورد هذان الاسمان في صحيح السنة ففي سنن أبي داود وابن ماجه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني عن أَنَسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) [1]
فالباسِطُ سبحانه : هو الذي يَبْسُط الرزق لعباده بجُوده ورحمته ، ويوسعه عليهم ببالغ كرمه وحكمته ، فيبتليهم بذلك على ما تقتضيه مشيئته ، والقابِضُ سبحانه : هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العِبادِ بلطفه وحِكمته فيُضَيِّقُ الأسباب على قوم ويُوَسِّع على آخرين ابتلاء وامتحانا ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر فهو الباسط القابض ، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى[2] كما قال تعالى : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر :21] فعطاؤه ومنعه تابع لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم ,ولذا كثيرا ما يقرن ربنا سبحانه بسط الرزق والتضييق بالعلم والخبرة ؛ كما قال تعالى : (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:12]،وقال (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) [الإسراء: 30 ]
وأخبرنا سبحانه عن وجه الحكمة في عدم بسط الرزق والتضييق الذي يقع على العبد أو على الجماعات أحيانا فقال : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ) [الشورى:27] .
وقد ظنت يهود أن منع الله لهم بخلاً منه سبحانه أو فقراً تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً فكذبهم ولعنهم , وتوعدهم بالخزي والعذاب ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة :64]
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) [ آل عمران :181 -182 ]
وعطاؤه سبحانه وبسطه لعبده في الأرزاق والأموال , والأولاد من أعظم ما يمتحن به عباده ويبتليهم به وقد ظن بعض المعرضين المكذبين للرسل أن ذلك لكرامتهم على الله , وأنه اصطفاء منه لهم فأخبر سبحانه أن عطاءه ليس الدليل على رضاه { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) [سبأ :34ـ 37]
( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) [ المؤمنون : 55-56] قال ابن كثير : " يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ:35] ، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء؛ ولهذا قال: { بَل لا يَشْعُرُونَ } ، كما قال تعالى: { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55] "[3]
والباسط سبحانه أيضا : هو الذي يبسط يده بالتوبة لمن أساء ، وهو الذي يملي لهم فجعلهم بين الخوف والرجاء ، روى مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) [4]
ومن معاني قبضه : أنه جل وعلا يقبض الأرض بيده كما قال تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر:67] ، وعن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك ) . وفي لفظ للبخاري : ( أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ) [5]
" والله عز وجل يقبض القلوب بإعراضها ويبسطها للإيمان بإقبالها فيقلب للعبد نوازع الخير في قلبه ، قرينه من الملائكة يهتف له بأمر ربه ، حتى يصبح قلبه على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، وهذا هو البسط الحقيقي والتوفيق الإلهي في بلوغ العبد درجة الإيمان ، فيجد المبسوط نورا يضيء له الجنان وسائر الجوارح والأركان ،ويَقبِضُ الأَرْواحَ عند المَمات بأمره وقدرته وقبضه تعالى وإمساكه وصف حقيقي لا نعلم كيفيته ، نؤمن به على ظاهره وحقيقته ، لا نمثل ولا نكيف ، ولا نعطل ولا نحرف ، وعلى هذا اعتقاد السلف في جميع الصفات والأفعال ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله ، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى وأن يداه مبسوطتان ) [6]" [7].