قبل بضعة أشهر طالب بعض المصريين من غير المسلمين مع بعض العلمانيين بتغيير المادة الثانية من الدستور المصري الحالي ، بحيث تحذف منها عبارة " الإسلام دين الدولة " ؟!
هذه الواقعة ، لا يمكن تجاهلها في ظل الحديث عن تكييف الثورة الشعبية المصرية الحالية في النظر الشرعي حالاً ومآلاً ؛ إذ إنَّ مصطلح الثورة من المصطلحات التي لها اتصال بالدستور وجوداً وإلغاء وتغييراً ، ولذلك فإنَّ الثورات الشعبية ، كما تكون فرص مكاسب ، يمكن أن تكون منشأ مخاطر ، وهنا تتعدد الأحكام المتفرعة بتعدد عللها ، والتابعة بتعدد ما تتبعه ؛ ومن ثم فإنَّ مصطلح ( الثورة الشعبية السلمية ) يتطلب تكييفا مختلفا عن غيرها من وسائل التعبير عن الرأي المعروفة عالميا .. فهي في الحقيقة من نوازل هذا العصر التي يعسر إلحاقها بحكم بعينه من الأحكام الفقهية المعتادة .
1) وإنَّ من مشكلات بعض الإعلام المعاصر : تحميل بعض الخطاب الإسلامي ما لا يحتمل - وتتبع زلل بعض قياداته مهما كان اجتهاداً مقبولاً ؛ وبغض النظر عن سببه ، جهلاً كان أو تشفياً أو تشنيعاً - فإنَّ ثمة إشكالات حقيقية ينبغي التنبه لها أيضاً ، منها : ما يتعلق بفهم الخطاب الشرعي لعموم النّاس ، كطريقة صياغة الخطاب ، اتكالاً على فهم الفقيه ومجتمعه ، ومن أمثلته : خلو الصياغة الفقهية أحياناً من بعض القيود المؤثرة ، اعتماداً على ظهورها لدى الفقيه ، بينما هي خفية بالنسبة لغيره ، كما ينبّه العلامة ابن عابدين رحمه الله ؛ وهذا أمر ظاهر في هذا العصر ، إذ تكون محل سوء فهم أو إساءة فهم ، ولا سيما في حال صناعة الخبر في صياغته . وكذا الشأن في حال ورود البيان في سياق بيان المخاطر ، لا قصد بيان الحكم المحرّر في التعامل مع الواقعة ، ومن أمثلة ذلك ما تداولته وسائل الإعلام عن بعض مشايخنا الفضلاء ، وتحميل كلامه ما لا يحتمله في واقع الحال ، وقصد المتكلم ؛ فقد وجدنا لهؤلاء الشيوخ تصريحات تضمنت بيان حكم التعامل مع الواقعة من خلال المطالبة بتحقيق المقاصد الشرعية للثائرين على استبداده مثلا . غير أنَّ الإعلام قد يتوقف أحيانا عند إشهار بيان دون بيان ، أو حكم دون قيود ؛ لأسباب قد تكون بريئة ، وقد لا تكون .
2) وعلى كل حال ، فإنَّ أهمَّ الإشكالات أيضاً ، ما يقع في التأصيل الشرعي لبعض القضايا السياسية ، ومن ذلك : إشكالية التكييف الفقهي للمسألة عند الفقيه ، كما هي في واقع الأمر ؛ وإشكالية فقه التعامل معها في الواقع بغض النظر عن الحكم الأصلي لديه .
ومثاله كما في العنوان : تكييف ( الثورة الشعبية السلمية ) ، هل هي خروج على الحاكم ؟
أو هي مظاهرات سلمية ؟ أو مظاهرات عنف ؟ أو اعتصامات احتجاج ؟
أو هي شيء آخر ؟
ويتبين الحكم من خلال النظر في الأوصاف الفقهية لكل حالة ، وهل المسألة مفردة يمكن إلحاقها بنظير أو تخريجها على حكم ، أو هي مركبة تتطلب نظراً مستقلا ، وحكماً جديدا ؟ فلا يصح إطلاق الأوصاف جزافاً ، ولا إلحاق المسائل المستجدة بغيرها تحكّما .
ومن يتأمل الثورات الشعبية السلمية المعاصرة ، ويراجع تاريخ الثورات الشعبية عموما ، وينظر فيما كتب في العلوم السياسية بشأنها ، يجدها أوسع شأناً من المظاهرات والاحتجاجات الأخرى ، ويجد لها سمات ، وبينها وبين غيرها فروقا تتمثل في نقاط عديدة ، ربما كان من أهمها بالنسبة للفقيه ما يلي :
- أنَّ الثورة انتفاضة شعبية عامة لا تمثل تياراً بعينه ، ولا تتطلب تصريحا بوجودها حتى لو بدأت بطريقة مأذون بها قانونيا . فهي تشمل المسلم وغير المسلم ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، و الغني والفقير ، وربما تشمل بعض المسؤولين أيضا ولا سيما في مراحلها المتقدمة .
- وأنَّها سلمية لا عسكرية ، فلا سلاح فيها ولا شوكة . وقد رأينا في الثورة المصرية الحالية كيف امتلأ ميدان التحرير بالقاهرة - مثلا- إلى اجتماع كبير للعوائل ، ففيه الرجال والنساء ، والشيوخ والأطفال ، فرأينا فيه ابن الثمانين ، كما رأينا فيه ذي الثلاثة أشهر ! وجاءت رمزية السلمية فيه في صور متعددة ، منها : إمضاء عقد النكاح الشرعي فيه منقولا على الهواء مباشرة بين شاب وشابة ! إضافة إلى ترحيب الناس بالجيش ، وتعهد الجيش بسلامتهم ، واعترافه بشرعية مطالبهم ؛ وهي مهمة في بيان مدى صحة إلحاقها بالخروج ؛ فهل يمكن أن توصف ثورة يلتزم الجيش بحمايتها بأنها خروج ؟!
- ومنها : أنَّها مفاجئة يعسر توقعها بدقة ، إن لم يكن غير ممكن ؛ فهي تأتي على نحو سريع ، بحيث تكون أمراً واقعاً ؛ وقد ذكرت من قبل في مقال ( خاطرة من وحي الثورة التونسية ) أنَّ الثورات كالزلازل الخطيرة ، لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها في الغالب ، كما لا يغني التحذير منها ، ولا يصح الاكتفاء بالتفرج على آثارها ، دون إنقاذ أو مساهمة في البناء . وهذه النقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي عند بيان الحكم ، حتى ممن لا يجيز بعض أدوات الثورة ؛ فمن المتقرر في قواعد الفقه وفقه الفتوى : التفريق بين حكم الشيء قبل وقوعه ، وحكمه بعد الوقوع . فالتعامل مع الواقع قد لا يستوفي شروط بعض الأحكام النظرية ، مما يجعل الفقيه ينظر إلى المسألة مع مراعاة الحكم من هذه الجهة .
وهذه النقاط مهمة من الناحية الفقهية ، في جوانب عدة ، ينبغي ملاحظتها في فقه التعامل مع الواقعة ، وإحسان توظيفها في تحقيق المصالح الشرعية دون توقف عند أضرار أدنى منزلة ، ومن هذه الأحكام على سبيل المثال : حكم قبول مشاركة - أو المشاركة مع غير المسلمين - أو أصحاب الفكر المتأثر ببعض الأفكار غير الإسلامية ، أو في ظل وجود النساء المتبرجات من مسلمات أو غير مسلمات ، ومدى الإفادة من الحضور المكثَّف لوسائل الإعلام المباشرة الإسلامية والأجنبية ، والعربية والعجمية ؛ وكذلك حكم الإفادة من هذا التجمع – الواقع - فيما يخدم الإسلام والمسلمين ، دعويا أو فكريا أو اجتماعيا مثلا . وهو ما يمكن تصوره في مثل : تصحيح صورة الإسلام المشوهة لدى العالم ، وذلك بالمشاركة الإيجابية في العمل السلمي الناضج ، وإقامة شعائر الإسلام ، كالصلاة جماعة أمام الشاشات بهذا العدد الهائل ، وكذا التوعية العامة ، ومدافعة اعتداءات المرتزقة الغاشمين ( البلطجية ) على الناس ، حفظاً للأنفس و الأموال والأعراض ، وتجهيز الموتى الذين سقطوا بسبب أجهزة النظام الحاكم ومرتزقته ، ومعالجة الجرحى ، وإطعام الناس ، وإعانة الناس ، وغيرها من المصالح المشروعة ، ولا سيما في ظل غياب الأجهزة الحكومية المعنية أو ممارستها لما فيه إضرار بالناس ، ووجود ما يشبه الفراغ السياسي ، أو احتمال وجوده .
- ومن ذلك : أنَّ الثورات الشعبية غرضها التغيير - لا مجرد التعبير - في النظام الحاكم ، بإصلاح إن كان قابلا للإصلاح ، أو بتغيير أو إسقاط ، إذا ما كان النظام فاسدا فاقدا للثقة فيه ؛ ولا تهدأ الثورة عادة إلا إذا تحققت مطالبها ، حتى لو أُقنِعت أو قُمِعَت في بدايتها ، فإنَّها تبقى كامنة لتثور في وقت لاحق . فهي ليست مجرد مظاهرات جماعية أو نقابية أو نحوها ، تخرج للتعبير عن مطالبها ، لتعود بعد تعبيرها عما تريد وإن لم تتحقق مطالبها ؛ بل هي عملية يتم من خلالها التغيير الجذري لنظام الحكم ويترتب عليه بالضرورة إلغاء الدستور . وهذه نقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي ، وذلك من حيث النظر في النظام الحاكم وحكم وجوده ، ومدى شرعيته ، ومدى المصلحة في الحفاظ عليه أو في تعجيل زواله ، وكذا الدستور إذا ما كان إسلامياً لا يجوز تغييره ، أو علمانيا مختلطاً يجب إصلاحه ، أو غير إسلامي يجب تبديله بما لا يناقض الثقافة الإسلامية في المجتمعات المسلمة ، إلى غير ذلك من الاعتبارات المهمة في الحكم .. وهنا ترد مسألة حكم المبادرة الشرعية في الإصلاح أو التأسيس الصحيح ، بمختلف أنواع المساهمة استقلالاً في أحوال واشتراكاً في أخرى . وهي اعتبارات مهمة لا ينفك الحكم عنها .
- ومنها : أنَّ الثورة الشعبية يقوم بها الشعب وقياداته الشعبية عادة ، فإن لم يكن فيشترط في الثورة أن تكون معبرة عن إرادة الشعب ، إذا ما قام بها بعض قياداته ؛ وذلك كله دون اشتراط قانونيتها من عدمه ، بل قد لا تحتمل التنسيق مع الحكّام أصلا ، ولا التحاور بل ولا – حتى - التفاوض معهم أحيانا . بخلاف المظاهرات التي تبدأ عادة وفق قوانين تسمح بها ، وقد تحمل تراخيص لتنفيذها . بل قد تكون بإيعاز من الحاكم ، أو برعاية الحزب الحاكم ، ولا سيما حين يشعر بضغوط أجنبية لا تتوافق مع سياساته أو آماله . وفي الثورة المصرية الحالية سمعنا الاعتراف بالثورة الشعبية رسميا من قبل قيادات النظام الحاكم ، وهو اعتراف رسمي سواء كان اعترافا بالشرعية أو بالواقعية .
وعليه ؛ فإنَّ هذه الفروق وغيرها ، تجعل (الثورة الشعبية السلمية) ، مسألة مستقلة بذاتها ، تقع على نحو معين ، ومن ثم لا ينبغي أن يُستدعى في بيان حكمها فتاوى جزئية تتعلق ببعض أدواتها التابعة ، كالمظاهرة أو الاعتصام مثلا .
وإذا ما انتقلنا إلى فقه التعامل مع الثورة ؛ فسنجد أنَّنا أمام فقه آخر ، تحكمه جملة من الأحكام ، لما لها من امتدادات متنوعة ، ومسائل متفرعة ؛ تجعل المسألة محل نظر فقهي ، مداره على جلب المصالح ودرء المفاسد ، مع اعتبار النظر في المآلات ، وهو أمر يتطلب نظراً آخر يوظّف علوماً أخرى في فقه التعامل مع هذه الواقعة ، كأدواتٍ وعلومِ آلةٍ للفقه السياسي ، منها : جملة العلوم السياسية ، التي تتطلب توظيفا فقهيا شرعياً للفكر السياسي ، والتنظيمات السياسية ، والعلاقات الدولية ، ومؤسسات المجتمع الشعبي وجماعات الضغط ؛ وهي قضايا متشابكة . وأكثر النَّاس فقهاً لهذه الأمور هم أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين والخبراء القانونيين والأساتذة المتخصصين ، ورؤوس الناس في بلد الواقعة ، كما شهدنا من علماء مصر وقضاتها وخبرائها ، وقياداتها الشعبية ، وتبقى وظيفة غيرهم من أهل الإسلام مكمِّلة ، في نحو إبداء نصح أو مشورة .
وهنا ينبغي التنبيه إلى أنَّ الحكم يبنى على نظر كلي ؛ فلا يمكن الحكم على الثورة الشعبية العارمة من خلال ما قد يصحبها من عنف عارض من أفراد لا يمثلون مجموع الثورة ، ولا من خلال عنف منظم مصدره بعض أجهزة الحكومة التي تريد التخلص منها .
وبهذا يظهر أنَّ إشكالية التكييف ، أحد أهم أسباب الخلاف الفقهي بين بعض العلماء في هذه النازلة .
وهو أمر يدركه كبار الفقهاء ، ويظهر ذلك في فقه التعامل مع الثورة المصرية ؛ وبه تفسر مطالبة الرئيس المصري بالتنحي من بعض من يمنع التظاهر من العلماء ، سواء كان منعه منعاً للمظاهرات عموما تغليبا لجانب مفاسدها ، أو لما يعتقد من كونه جزءاً من خطة تقسيم جديدة للعالم العربي والإسلامي ؛ وذلك إدراكاً منهم للفرق بين الحكم على أصل الشيء قبل وقوعه ، وحكم التعامل معه بعد الوقوع .
كما يظهر أنَّ للإعلام أثراً إيجابياً أو سلبياً في خدمة الفقه أو التأثير فيه نقلاً أو توظيفا ، حسناً كان أو سيئاً ، وهو ما ينبغي على العلماء والدعاة ملاحظته .
وأخيراً ، فهذه إشارات عابرة ، قُصد منها لفت الانتباه إلى أهمية فهم كلام أهل العلم وطريقتهم في الخطاب ، وأهمية العناية بالمسائل على ما هي عليه ، دون الاكتفاء باستدعاء أحكام مسائل أخرى ليست إلا حكما بالنظر في الجزء ، لا يمكن اختزال حكم الكل فيه ، ولا تخريج حكم الواقعة على فتاوى علماء أجلاء ، جاءت في سياقات مختلفة ، كسياق بيان وسائل الدعوة ، لا بيان فقه التعامل في حال وقوع الثورات الشعبية .
وفي ظل الثورة العارمة ، ينبغي أن يدرك الثائرون أنَّ لحظة الانتصار قد تكون هي ذاتها لحظة الخطر الأكبر ، إذ هي محل للثقة المفرطة ، التي قد تحمل المنتصر على تفويت فرصة الانتصار بالإصرار على حصول ما قد لا يتحقق كله ، أو الثقة في وعد دون ضمانات قوية .
وفي تاريخ الثورة المصرية السابقة عبر كثيرة ، وغدر خطير ، كما أنَّ فيها مكاسب ، كان منها النّص في الدستور المصري على أنَّ الإسلام دين الدولة ، والذي كان مسودة حتى تقرر في الدستور الحالي وسابقَيه ، وهو ما لم يكن فيما قبلها ؛ وثقتنا في أهل الإسلام في مصر أن لا يقبلوا تغييرا في الدستور يمس دين الدولة ، بل أملنا فيهم بعون الله ، أن يضيفوا إليه – من خلال الأدوات الرسمية المتاحة - ما يجعل الشريعة الإسلامية العادلة مصدر القوانين المصرية ، وهي شرعية تحفظ حقوق المواطن المصري ، مسلماً كان أو قبطيا .
نسأل الله تعالى أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه الإسلام وأهله ، وأن يولي على المسلمين خيارهم من ذوي الأمانة والقوة ، ممن يحفظون الدين ويسوسون الدنيا به ، ويسوسون الأمة سياسة شرعية ، تحفظ كيانهم وهويتهم ، وتحقق الاستقرار والرغد لهم في أوطانهم .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
هذه الواقعة ، لا يمكن تجاهلها في ظل الحديث عن تكييف الثورة الشعبية المصرية الحالية في النظر الشرعي حالاً ومآلاً ؛ إذ إنَّ مصطلح الثورة من المصطلحات التي لها اتصال بالدستور وجوداً وإلغاء وتغييراً ، ولذلك فإنَّ الثورات الشعبية ، كما تكون فرص مكاسب ، يمكن أن تكون منشأ مخاطر ، وهنا تتعدد الأحكام المتفرعة بتعدد عللها ، والتابعة بتعدد ما تتبعه ؛ ومن ثم فإنَّ مصطلح ( الثورة الشعبية السلمية ) يتطلب تكييفا مختلفا عن غيرها من وسائل التعبير عن الرأي المعروفة عالميا .. فهي في الحقيقة من نوازل هذا العصر التي يعسر إلحاقها بحكم بعينه من الأحكام الفقهية المعتادة .
1) وإنَّ من مشكلات بعض الإعلام المعاصر : تحميل بعض الخطاب الإسلامي ما لا يحتمل - وتتبع زلل بعض قياداته مهما كان اجتهاداً مقبولاً ؛ وبغض النظر عن سببه ، جهلاً كان أو تشفياً أو تشنيعاً - فإنَّ ثمة إشكالات حقيقية ينبغي التنبه لها أيضاً ، منها : ما يتعلق بفهم الخطاب الشرعي لعموم النّاس ، كطريقة صياغة الخطاب ، اتكالاً على فهم الفقيه ومجتمعه ، ومن أمثلته : خلو الصياغة الفقهية أحياناً من بعض القيود المؤثرة ، اعتماداً على ظهورها لدى الفقيه ، بينما هي خفية بالنسبة لغيره ، كما ينبّه العلامة ابن عابدين رحمه الله ؛ وهذا أمر ظاهر في هذا العصر ، إذ تكون محل سوء فهم أو إساءة فهم ، ولا سيما في حال صناعة الخبر في صياغته . وكذا الشأن في حال ورود البيان في سياق بيان المخاطر ، لا قصد بيان الحكم المحرّر في التعامل مع الواقعة ، ومن أمثلة ذلك ما تداولته وسائل الإعلام عن بعض مشايخنا الفضلاء ، وتحميل كلامه ما لا يحتمله في واقع الحال ، وقصد المتكلم ؛ فقد وجدنا لهؤلاء الشيوخ تصريحات تضمنت بيان حكم التعامل مع الواقعة من خلال المطالبة بتحقيق المقاصد الشرعية للثائرين على استبداده مثلا . غير أنَّ الإعلام قد يتوقف أحيانا عند إشهار بيان دون بيان ، أو حكم دون قيود ؛ لأسباب قد تكون بريئة ، وقد لا تكون .
2) وعلى كل حال ، فإنَّ أهمَّ الإشكالات أيضاً ، ما يقع في التأصيل الشرعي لبعض القضايا السياسية ، ومن ذلك : إشكالية التكييف الفقهي للمسألة عند الفقيه ، كما هي في واقع الأمر ؛ وإشكالية فقه التعامل معها في الواقع بغض النظر عن الحكم الأصلي لديه .
ومثاله كما في العنوان : تكييف ( الثورة الشعبية السلمية ) ، هل هي خروج على الحاكم ؟
أو هي مظاهرات سلمية ؟ أو مظاهرات عنف ؟ أو اعتصامات احتجاج ؟
أو هي شيء آخر ؟
ويتبين الحكم من خلال النظر في الأوصاف الفقهية لكل حالة ، وهل المسألة مفردة يمكن إلحاقها بنظير أو تخريجها على حكم ، أو هي مركبة تتطلب نظراً مستقلا ، وحكماً جديدا ؟ فلا يصح إطلاق الأوصاف جزافاً ، ولا إلحاق المسائل المستجدة بغيرها تحكّما .
ومن يتأمل الثورات الشعبية السلمية المعاصرة ، ويراجع تاريخ الثورات الشعبية عموما ، وينظر فيما كتب في العلوم السياسية بشأنها ، يجدها أوسع شأناً من المظاهرات والاحتجاجات الأخرى ، ويجد لها سمات ، وبينها وبين غيرها فروقا تتمثل في نقاط عديدة ، ربما كان من أهمها بالنسبة للفقيه ما يلي :
- أنَّ الثورة انتفاضة شعبية عامة لا تمثل تياراً بعينه ، ولا تتطلب تصريحا بوجودها حتى لو بدأت بطريقة مأذون بها قانونيا . فهي تشمل المسلم وغير المسلم ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، و الغني والفقير ، وربما تشمل بعض المسؤولين أيضا ولا سيما في مراحلها المتقدمة .
- وأنَّها سلمية لا عسكرية ، فلا سلاح فيها ولا شوكة . وقد رأينا في الثورة المصرية الحالية كيف امتلأ ميدان التحرير بالقاهرة - مثلا- إلى اجتماع كبير للعوائل ، ففيه الرجال والنساء ، والشيوخ والأطفال ، فرأينا فيه ابن الثمانين ، كما رأينا فيه ذي الثلاثة أشهر ! وجاءت رمزية السلمية فيه في صور متعددة ، منها : إمضاء عقد النكاح الشرعي فيه منقولا على الهواء مباشرة بين شاب وشابة ! إضافة إلى ترحيب الناس بالجيش ، وتعهد الجيش بسلامتهم ، واعترافه بشرعية مطالبهم ؛ وهي مهمة في بيان مدى صحة إلحاقها بالخروج ؛ فهل يمكن أن توصف ثورة يلتزم الجيش بحمايتها بأنها خروج ؟!
- ومنها : أنَّها مفاجئة يعسر توقعها بدقة ، إن لم يكن غير ممكن ؛ فهي تأتي على نحو سريع ، بحيث تكون أمراً واقعاً ؛ وقد ذكرت من قبل في مقال ( خاطرة من وحي الثورة التونسية ) أنَّ الثورات كالزلازل الخطيرة ، لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها في الغالب ، كما لا يغني التحذير منها ، ولا يصح الاكتفاء بالتفرج على آثارها ، دون إنقاذ أو مساهمة في البناء . وهذه النقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي عند بيان الحكم ، حتى ممن لا يجيز بعض أدوات الثورة ؛ فمن المتقرر في قواعد الفقه وفقه الفتوى : التفريق بين حكم الشيء قبل وقوعه ، وحكمه بعد الوقوع . فالتعامل مع الواقع قد لا يستوفي شروط بعض الأحكام النظرية ، مما يجعل الفقيه ينظر إلى المسألة مع مراعاة الحكم من هذه الجهة .
وهذه النقاط مهمة من الناحية الفقهية ، في جوانب عدة ، ينبغي ملاحظتها في فقه التعامل مع الواقعة ، وإحسان توظيفها في تحقيق المصالح الشرعية دون توقف عند أضرار أدنى منزلة ، ومن هذه الأحكام على سبيل المثال : حكم قبول مشاركة - أو المشاركة مع غير المسلمين - أو أصحاب الفكر المتأثر ببعض الأفكار غير الإسلامية ، أو في ظل وجود النساء المتبرجات من مسلمات أو غير مسلمات ، ومدى الإفادة من الحضور المكثَّف لوسائل الإعلام المباشرة الإسلامية والأجنبية ، والعربية والعجمية ؛ وكذلك حكم الإفادة من هذا التجمع – الواقع - فيما يخدم الإسلام والمسلمين ، دعويا أو فكريا أو اجتماعيا مثلا . وهو ما يمكن تصوره في مثل : تصحيح صورة الإسلام المشوهة لدى العالم ، وذلك بالمشاركة الإيجابية في العمل السلمي الناضج ، وإقامة شعائر الإسلام ، كالصلاة جماعة أمام الشاشات بهذا العدد الهائل ، وكذا التوعية العامة ، ومدافعة اعتداءات المرتزقة الغاشمين ( البلطجية ) على الناس ، حفظاً للأنفس و الأموال والأعراض ، وتجهيز الموتى الذين سقطوا بسبب أجهزة النظام الحاكم ومرتزقته ، ومعالجة الجرحى ، وإطعام الناس ، وإعانة الناس ، وغيرها من المصالح المشروعة ، ولا سيما في ظل غياب الأجهزة الحكومية المعنية أو ممارستها لما فيه إضرار بالناس ، ووجود ما يشبه الفراغ السياسي ، أو احتمال وجوده .
- ومن ذلك : أنَّ الثورات الشعبية غرضها التغيير - لا مجرد التعبير - في النظام الحاكم ، بإصلاح إن كان قابلا للإصلاح ، أو بتغيير أو إسقاط ، إذا ما كان النظام فاسدا فاقدا للثقة فيه ؛ ولا تهدأ الثورة عادة إلا إذا تحققت مطالبها ، حتى لو أُقنِعت أو قُمِعَت في بدايتها ، فإنَّها تبقى كامنة لتثور في وقت لاحق . فهي ليست مجرد مظاهرات جماعية أو نقابية أو نحوها ، تخرج للتعبير عن مطالبها ، لتعود بعد تعبيرها عما تريد وإن لم تتحقق مطالبها ؛ بل هي عملية يتم من خلالها التغيير الجذري لنظام الحكم ويترتب عليه بالضرورة إلغاء الدستور . وهذه نقطة مهمة جداً في التكييف الفقهي ، وذلك من حيث النظر في النظام الحاكم وحكم وجوده ، ومدى شرعيته ، ومدى المصلحة في الحفاظ عليه أو في تعجيل زواله ، وكذا الدستور إذا ما كان إسلامياً لا يجوز تغييره ، أو علمانيا مختلطاً يجب إصلاحه ، أو غير إسلامي يجب تبديله بما لا يناقض الثقافة الإسلامية في المجتمعات المسلمة ، إلى غير ذلك من الاعتبارات المهمة في الحكم .. وهنا ترد مسألة حكم المبادرة الشرعية في الإصلاح أو التأسيس الصحيح ، بمختلف أنواع المساهمة استقلالاً في أحوال واشتراكاً في أخرى . وهي اعتبارات مهمة لا ينفك الحكم عنها .
- ومنها : أنَّ الثورة الشعبية يقوم بها الشعب وقياداته الشعبية عادة ، فإن لم يكن فيشترط في الثورة أن تكون معبرة عن إرادة الشعب ، إذا ما قام بها بعض قياداته ؛ وذلك كله دون اشتراط قانونيتها من عدمه ، بل قد لا تحتمل التنسيق مع الحكّام أصلا ، ولا التحاور بل ولا – حتى - التفاوض معهم أحيانا . بخلاف المظاهرات التي تبدأ عادة وفق قوانين تسمح بها ، وقد تحمل تراخيص لتنفيذها . بل قد تكون بإيعاز من الحاكم ، أو برعاية الحزب الحاكم ، ولا سيما حين يشعر بضغوط أجنبية لا تتوافق مع سياساته أو آماله . وفي الثورة المصرية الحالية سمعنا الاعتراف بالثورة الشعبية رسميا من قبل قيادات النظام الحاكم ، وهو اعتراف رسمي سواء كان اعترافا بالشرعية أو بالواقعية .
وعليه ؛ فإنَّ هذه الفروق وغيرها ، تجعل (الثورة الشعبية السلمية) ، مسألة مستقلة بذاتها ، تقع على نحو معين ، ومن ثم لا ينبغي أن يُستدعى في بيان حكمها فتاوى جزئية تتعلق ببعض أدواتها التابعة ، كالمظاهرة أو الاعتصام مثلا .
وإذا ما انتقلنا إلى فقه التعامل مع الثورة ؛ فسنجد أنَّنا أمام فقه آخر ، تحكمه جملة من الأحكام ، لما لها من امتدادات متنوعة ، ومسائل متفرعة ؛ تجعل المسألة محل نظر فقهي ، مداره على جلب المصالح ودرء المفاسد ، مع اعتبار النظر في المآلات ، وهو أمر يتطلب نظراً آخر يوظّف علوماً أخرى في فقه التعامل مع هذه الواقعة ، كأدواتٍ وعلومِ آلةٍ للفقه السياسي ، منها : جملة العلوم السياسية ، التي تتطلب توظيفا فقهيا شرعياً للفكر السياسي ، والتنظيمات السياسية ، والعلاقات الدولية ، ومؤسسات المجتمع الشعبي وجماعات الضغط ؛ وهي قضايا متشابكة . وأكثر النَّاس فقهاً لهذه الأمور هم أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين والخبراء القانونيين والأساتذة المتخصصين ، ورؤوس الناس في بلد الواقعة ، كما شهدنا من علماء مصر وقضاتها وخبرائها ، وقياداتها الشعبية ، وتبقى وظيفة غيرهم من أهل الإسلام مكمِّلة ، في نحو إبداء نصح أو مشورة .
وهنا ينبغي التنبيه إلى أنَّ الحكم يبنى على نظر كلي ؛ فلا يمكن الحكم على الثورة الشعبية العارمة من خلال ما قد يصحبها من عنف عارض من أفراد لا يمثلون مجموع الثورة ، ولا من خلال عنف منظم مصدره بعض أجهزة الحكومة التي تريد التخلص منها .
وبهذا يظهر أنَّ إشكالية التكييف ، أحد أهم أسباب الخلاف الفقهي بين بعض العلماء في هذه النازلة .
وهو أمر يدركه كبار الفقهاء ، ويظهر ذلك في فقه التعامل مع الثورة المصرية ؛ وبه تفسر مطالبة الرئيس المصري بالتنحي من بعض من يمنع التظاهر من العلماء ، سواء كان منعه منعاً للمظاهرات عموما تغليبا لجانب مفاسدها ، أو لما يعتقد من كونه جزءاً من خطة تقسيم جديدة للعالم العربي والإسلامي ؛ وذلك إدراكاً منهم للفرق بين الحكم على أصل الشيء قبل وقوعه ، وحكم التعامل معه بعد الوقوع .
كما يظهر أنَّ للإعلام أثراً إيجابياً أو سلبياً في خدمة الفقه أو التأثير فيه نقلاً أو توظيفا ، حسناً كان أو سيئاً ، وهو ما ينبغي على العلماء والدعاة ملاحظته .
وأخيراً ، فهذه إشارات عابرة ، قُصد منها لفت الانتباه إلى أهمية فهم كلام أهل العلم وطريقتهم في الخطاب ، وأهمية العناية بالمسائل على ما هي عليه ، دون الاكتفاء باستدعاء أحكام مسائل أخرى ليست إلا حكما بالنظر في الجزء ، لا يمكن اختزال حكم الكل فيه ، ولا تخريج حكم الواقعة على فتاوى علماء أجلاء ، جاءت في سياقات مختلفة ، كسياق بيان وسائل الدعوة ، لا بيان فقه التعامل في حال وقوع الثورات الشعبية .
وفي ظل الثورة العارمة ، ينبغي أن يدرك الثائرون أنَّ لحظة الانتصار قد تكون هي ذاتها لحظة الخطر الأكبر ، إذ هي محل للثقة المفرطة ، التي قد تحمل المنتصر على تفويت فرصة الانتصار بالإصرار على حصول ما قد لا يتحقق كله ، أو الثقة في وعد دون ضمانات قوية .
وفي تاريخ الثورة المصرية السابقة عبر كثيرة ، وغدر خطير ، كما أنَّ فيها مكاسب ، كان منها النّص في الدستور المصري على أنَّ الإسلام دين الدولة ، والذي كان مسودة حتى تقرر في الدستور الحالي وسابقَيه ، وهو ما لم يكن فيما قبلها ؛ وثقتنا في أهل الإسلام في مصر أن لا يقبلوا تغييرا في الدستور يمس دين الدولة ، بل أملنا فيهم بعون الله ، أن يضيفوا إليه – من خلال الأدوات الرسمية المتاحة - ما يجعل الشريعة الإسلامية العادلة مصدر القوانين المصرية ، وهي شرعية تحفظ حقوق المواطن المصري ، مسلماً كان أو قبطيا .
نسأل الله تعالى أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه الإسلام وأهله ، وأن يولي على المسلمين خيارهم من ذوي الأمانة والقوة ، ممن يحفظون الدين ويسوسون الدنيا به ، ويسوسون الأمة سياسة شرعية ، تحفظ كيانهم وهويتهم ، وتحقق الاستقرار والرغد لهم في أوطانهم .
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .