السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعاني من كثرة النسيان وعدم التركيز، مع أن عمري لا يتجاوز 27 أحاول التركيز لكن دون فائدة، وأخاف أن يؤثر هذا في عملي، حيث أنني أعمل في مجال يحتاج الكثير من التركيز والذاكرة، حيث أنني أحمل كما كبيرا من المسؤولية، والشركة تعتمد علي في كثير من الأمور، أصبحت أنسى كثيرا، خاصة بعد مرض أحد أفراد عائلتي، ولكن الحمد لله حاله يتحسن، وأتمنى من الله عز وجل شفاءه بسرعة، تشغلني الكثير من الأمور، كالعمل أولا، وعائلتي ثانيا، وأمور دنيوية أخرى، ويشغلني كثيرا ما سيحدث لي بعد الموت، وما سيكون نتيجة أعمالي، مع أنني أحاول التقرب من الله عز وجل دائما، ولكن أبقى أشعر بأن هناك نقصا لا أدري ما هو؟
وأنا أخاف كثيرا عندما أفكر في هذه الأمور، لا أعرف ماذا علي فعله؟ أقرأ القرآن، وأصلي وأصوم شهر رمضان وأجعله للعبادة، حيث أحاول عدم العمل في هذا الشهر الفضيل؛ لأنه فرصتي الوحيدة للتقرب إلى الله عز وجل.
أرجو من الله عز وجل أن يساعدني في هذه الأزمة التي أمر فيها، وأن يرشدني إلى الطريق الصحيح آمين يا رب العالمين.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رانيا حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فهذه كلمات لفتاة قد وهبها الله تعالى همة عالية، ووهبها عزيمة قوية، فأنت بكرم من الله وفضل تريدين أن تحصلي معالي الأمور، فتريدين لنفسك أن تكوني قوية في إيمانك، قريبة من ربك، بعيدة عن التقصير في حقه جل جلاله، ثم تنظرين فتجدين نفسك لم تفِ لما تريدين من هذا المعنى، فأنت تشعرين في داخل نفسك بالتقصير، وقد عبرت عنه في هذا الكلام الذي شرحت فيه حالك بقولك: (أشعر بأن هنالك نقصا لا أدري ما هو)، وتريدين في نفس الوقت أن تسعي في هذه الحياة لتكملي أمورك ومصالحك فيها، فتريدين أن تكوني صاحبة عمل ومثابرة وتفوق ونجاح في وظيفتك، لا سيما وأنت ملقى على عاتقك أمانات عظيمة ومهام كبيرة القدر، مع ما لوظيفتك من الموقع المهم البالغ الأهمية، فكل ذلك سبب لك قلقًا في داخل نفسك، وسبب لك شيئًا من تشتت الذهن، وإن كنا نرى بوضوح بحمد الله عز وجل أنه لم يصل إلى درجة المرض النفسي، ولكنه نوع من القلق يجعلك تشعرين بأنك في وضع تحتاجين فيه إلى ترتيب أمورك، وتحتاجين فيه إلى أن تقفي موقف الفاحص الناظر في كيفية الرقي بنفسك، وعلاج هذه الهموم المتراكمة عليها.
مضافًا إلى ذلك أنك صاحبة اهتمام بأهلك وأسرتك، فأنت لا تحبين أن تكوني مهملة لحقوقك الأسرية، فلاحظي كيف أنك بمجرد مرض قريبك المذكور قد حصل لك همٌّ وتشتت في الذهن حتى صرت إلى ما صرت إليه الآن من كثرة النسيان، فقد وضح السبب فيما تعانينه من كثرة النسيان، إنه القلق وإنه تشتت الذهن، وهذه طبيعة في البشر، فإن الأمور إذا ازدحمت في البال وصرفت النفس إلى جهة معينة صعب عليها أن تنصرف إلى جهة أخرى وأن تمعن فيها؛ ولذلك قال الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}، والنسيان في الإنسان صفة أصيلة فيه، وهو وإن كان في هذا الموضع الذي تسألين عنه غير محمود إلا أنه قد يكون تارة نعمة من الله جل وعلا، فالنسيان يعين على تجاوز الأزمات ويعين على الخروج من الأحزان والخروج من الذكريات المؤلمة، ولكن في أمر العمل – كما هو حاصل لك – وأمر العلم، والتحصيل، والنسيان يصبح آفة لابد من تداركها، ولابد من علاجها قبل أن تصل بك إلى تفويت حقوقك أو حقوق الناس.
والمقصود أنك الآن تعانين من شيء من القلق النفسي الذي يجعلك تشعرين بهذا التشتت الذهني، وبهذا النسيان الذي بات يعرض لك من حينٍ إلى حينٍ،
وأما عن كيفية علاج هذا الأمر فإن جوابنا سيكون شاملاً لهذه الأمور التي قد تطرقت إليها في سؤالك، فسيكون شاملاً لموضوع النسيان، ولموضوع القلق، ولموضوع علاقتك بربك، ولموضوع ما يصيبك من الهم والغم نتيجة مرض بعض أقاربك أو حصول همٍّ لبعض أهلك، فإليك هذه الخطوات السهلة الميسورة التي أنت قادرة عليها بإذن الله عز وجل:
1- الدنيا مشاغلها كثيرة، والآخرة مشاغلها أعظم وأعظم، فالمؤمن قلبه معلق بالوقوف أمام الله تعالى، وبالإعداد لما سيواجه به ربه يوم القيامة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) والحديث أخرجه الترمذي في سننه.. وهذا الأمر يقتضي منك أن تكوني قوية الاستعانة بالله، فإن العبد في الحقيقة لا طاقة له ولا قدرة له على الجمع بين هذه الأمور – أمور الدنيا وأمور الآخرة – إلا بأن يستعين بربه، وإلا بأن يفوض أمره إلى خالقه ومولاه، فعليك إذن بالتوكل على الله، وعليك أن تكوني قريبة من ربك معتمدة عليه مفوضة أمرك إليه؛ فإن الله جل وعلا يقول: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي فهو كافيه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) أخرجه الترمذي في سننه.
2- الحرص على جودة العمل، وعلى إحسان العلاقة بربك، قال الله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}. فالمطلوب منك أن تجودي عملك، وأن تحسني من علاقتك بربك، فعمل قليل من النوافل مع إحسان وخشوع ومراقبة خير من كثير من النوافل مع بعد القلب وشرود الذهن وعدم خشوع، ولذلك قال الله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}. وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا) قالت عائشة رضي الله عنها: (وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه) أخرجه البخاري ومسلم.
فعليك بأن تحرصي على أداء ما افترضه الله عليك، كما قال جل وعلا في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحبتته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) أخرجه البخاري في صحيحه.
والمقصود أن تحرصي على إحسان العلاقة بربك، وذلك بأن تجعلي لك نظامًا في عبادتك، فمثلاً هنالك الواجبات الشرعية وهنالك أداء الصلاة والقيام بالنوافل التي تكون مع الفرائض وهي الرواتب، ثم بعد ذلك المحافظة على أذكار الصباح والمساء مع قراءة لصفحات من كتاب الله عز وجل لا سيما بعد الفرائض، فإن أمكنك أن تقرئي صفحة أو صفحتين من كتاب الله فتأملي كم ستكون حصيلتك في اليوم، عشر صفحات من كتاب الله عز وجل حصيلة سهلة بجهد يسير، وكذلك من قيام الليل يكفيك أن تصلي الشفع والوتر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من صلى ركعتين بعد صلاة العشاء دخل في قول الله جل وعلا: {والذين يبيتون لربهم سُجدًا وقيامًا}). فإن نشطت فصلي خمس ركعات، ركعتان للقيام وركعتان للشفع والوتر، فهذا يا أختي نظام لو سرت عليه ستكونين مفلحة شاعرة بأنك دومًا قريبة من الله؛ لأنك مداومة على هذا العمل وعاملة به على استمرار وعلى اتباع، وهذا خير من أن تجعلي لنفسك شهرًا واحدًا في السنة وتكونين بعد ذلك بعيدة عن القراءة وعن الصلاة في سائر السنة كلها، ولكن اجعلي همك في رمضان، وحافظي على هذا، وهو التفرغ لعبادة الله عز وجل في هذا الشهر الذي تتضاعف فيه الأعمال، والذي هو غنيمة المؤمن، مع المحافظة على النظام طوال أيامك ولياليك، فيا لفوزك ويا لنجاحك بعد ذلك، فإن الله جل وعلا يحب من عبده أن يديم طاعته، وهذا هو حقيقة القنوت، فالقنوت هو دوام الطاعة، فكوني قانتة لربك مداومة على طاعته وستنالين بذلك انشراح الصدر وتنالين بذلك الطمأنينة والسكينة.
3- عليك بهدوء النفس وعدم القلق، هذا يحتاج منك أن تنتبهي إلى الأفكار الواردة عليك، فإذا شعرت بالأفكار المقلقة فلا تسترسلي فيها، فهذا المرض الذي أصاب قريبك احتسبي الأجر عند الله، وتذكري أنك قد ابتليت بهذا القريب وابتليت بما أصابه لأنه يعز عليك، فإذا ابتلي الإنسان بأخ قريب أو والدة أو والد فتألم لذلك فهذا يؤجر عليه، فأكثري من الدعاء والاستغفار وأكثري من الاحتساب، وحينئذ ستصبح المصيبة نعمة، وسيصبح القلق طمأنينة وسكينة، ولا مانع من الهم والغم العاديين، فإن هذا لا ينفك عنه الإنسان؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب – أي تعب – ولا وصب – أي مرض – ولا هم ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق على صحته.
4- عليك بترتيب أمورك في داخل عملك، فليس المطلوب منك أن تحملي الشركة كلها وأشغالها كلها على كتفيك، ولكن وزعي أعمالك وخذي أصل وظيفتك، فرتبي أعمالك على هذا النحو، ثم بعد ذلك كملي ما تستطيعين تكميله من الأعمال الأخرى التي تناط بك، فلا يحسن بك أن تنهمكي في العمل انهماكًا يجعلك مشوشة الذهن على هذا النحو، فأساس توفيقك في وظيفتك بعد توفيق الله هو أن ترتبي نظامك اليومي والعملي في هذا الأمر، وأن توزعي المهام توزيعًا يناسب أصل الوظيفة مع ما يكون بعد ذلك من الفروع الأخرى التي يمكن المعاونة فيها.
قد سألت سؤالاً عن شعورك بأنه ينقصك شيء، وهذا الشيء الذي ينقصك هو أن تبذلي جهدك في الانكسار لله تعالى، إن في القلب جوعًا لا يسده إلا الذلة لله وإلا الانكسار إليه والتضرع إليه، فكوني دومًا مخبتة إلى ربك ذليلة له، متذللة متضرعة ترجين رحمته وتخافين عذابه، فحينئذ ستجدين أن هذا الشيء الذي تبحثين عنه قد حصلته في قلبك.. نعم أنت بحمد الله تحرصين على الصدقات وعلى الأعمال الصالحة، ولكن أضيفي إلى ذلك أن تداومي على قربك من الله جل وعلا، وعلى الانكسار إليه، واستعملي يا أختي غض البصر، والبعد عن الاختلاط بالرجال، وصحبة الصالحات، فكل ذلك من شيم المؤمنة الصالحة القانتة بإذن الله عز وجل، والظن بك أنك على هذا الأمر وهذا الخلق، والمراد هو الإشارة والتذكير فحسب.
وأما عن موضوع علاج النسيان فيمكنك مراجعة الاستشارة رقم 269270 فإن فيها بغيتك بإذن الله عز وجل، ونسأل الله عز وجل لك التوفيق والسداد وأن يشرح صدرك وأن ييسر أمرك، ونود دوام مراسلتك إلى الشبكة الإسلامية.
وبالله التوفيق.